نقاط القوة أولًا

نقاط القوة أولًا

يعتقد الكثير من الناس أن التركيز على معالجة نقاط الضعف لدى الإنسان مهم جدًّا، وخاصةً لدى الأبناء؛ فمثلًا الضعف في مادة معينة كالجغرافيا مثلًا يستدعي الأسرة إلى التركيز على هذه المادة، وطلب معلم خصوصي، والاهتمام بها، بينما تميز الابن في الرياضيات، أو في الحفظ مثلًا، لا تعير الأسرة أي اهتمام بهذا الجانب المهم الذي قد تصنع منه عالمًا في مجاله.

كما أننا نعلم يقينًا أن مدرب كرة القدم سيضع اللاعب الذي يجيد تسديد الكره بالرأس في موقع الهجوم أمام المرمى، واللاعب الذي يجيد الصد بيديه والقفز إلى أبعد زاوية في حراسة المرمى.. وهكذا.

لهذا فإن تطوير وتنمية المواهب والقدرات المناسبة، تنطلق من تقوية نقاط القوة لدى الأبناء لصناعة موهوب في مجال معين.

لهذا نجد أن القرآن جاء فيه التركيز على نقاط القوة، من إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى في وصفه لأبيها حين أتاهُ موسى، وكان اسم إحداهما صَفُّورا، والأخرى لَيّا:

(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

وهذا ما كان عليه النبي محمد –عليه الصلاة والسلام– حينما كان يركز على جوانب القوة لدى أصحابه؛ فهذا خالد بن الوليد سيف الله المسلول وكان يُؤَمِّرُهُ وَيُقَدِّمُهُ في قيادة الجيش في أكثر من موقع، وكان –صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم– يقول: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ». ويقول: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ يَقُولُ بِهِ». وكان عمر –رضي الله عنه– يقول: «أُبيّ أقرأنا وعلي أقضانا».

بدون شك تعتبر معرفة نقاط القوة لدى الإنسان، من أهم العوامل التي تؤدي إلى النجاح؛ فالحكماء يقولون إنه «لا يوجد إنسان ضعيف، ولكن يوجد إنسان لا يعرف مواطن القوة فيه»؛ حيث يمتلك كل إنسان عددًا من نقاط القوة، وعددًا من نقاط الضعف، تختلف من شخصٍ إلى آخر، وهي أحد الميزات التي تميز كلًّا منا عن الآخر، وتساهم في صقل شخصية الإنسان، وعمله وحياته كلها؛ فغالبًا ما نتجنب المهمات التي تحتاج إلى مهاراتٍ نمتلك نقاط ضعفٍ فيها، ونسارع إلى المهمات التي نمتلك نقاط قوةٍ تؤهلنا لفعلها، ولكن تجنب المهمات هذه بشكلٍ مستمر، لا يؤدي إلا إلى زيادة سيطرة نقاط الضعف علينا، والخوف منها، وزيادة صعوبة التخلص منها؛ لهذا قد يقضي بعض الأشخاص حياتهم كلها خائفين من نقاط ضعفهم؛ ما يمنعهم من إظهار طاقاتهم الحقيقية في المجتمع.

وقد أثبتت دراسات عديدة، أن الناس يلتفتون بشدة إلى المعلومات السلبية؛ فعلى سبيل المثال عندما يُطلب منهم استدعاء أحداث انفعالية مهمة مرت بهم، تستدعي عقولهم أربع ذكريات سلبية، في مقابل ذكرى واحدة إيجابية، إضافة إلى أن 93% من ذوي العيوب القاتلة، ليست لديهم أي نقاط قوة، وكلما زادت نقاط القوة لديهم تضاءلت احتمالات وجود عيب قاتل لديهم.

لكن كيف يعرف الإنسان نقاط القوة والضعف لديه؟

 إن معرفة نقاط ضعفك وقوتك، هي الخطوة الأولى لتسخير هذه النقاط في مجالات حياتك بأكملها. ومعرفة نقاط ضعفك وقوتك تكون في البداية من تقديرك لنفسك، ومعرفتها حق المعرفة؛ فالوالدان –على سبيل المثال– يعرفان ما يحبُّه أولادهما، وما يكرهونه وما يجيدونه، وكذلك المدير البارع في شركته، وكل هذا يأتي من مراقبة سلوك الإنسان لمدةٍ من الزمن.

كي تعرف نقاط ضعفك وقوتك، عليك أن تعرف ما تحبه وتكرهه، والنشاطات التي تجد المتعة الكبرى فيها، واللحظات أو المهمات التي تجد نفسك خائفًا عند القيام بها، والقيم التي تَمتلكها ولا تستطيع الاستغناء عنها؛ فقد يجد البعض في هذه الأيام أن عدم قيامك بالغش في عملك هو أحد نقاط ضعفك التي تؤخِّرك عن البقية، ولكن عليك أن تعلم أن هذا الأمر لا ينبع من نقاط ضعفك إنما من قيمك التي تؤمن بها. 

لمعرفة نقاط ضعفك وقوتك، عليك أن تسأل الناس من حولك ممن تستطيع الوثوق بهم؛ فكما قلنا سابقًا فإن بإمكانك سؤال والديك وإخوتك وأصدقائك وحتى مديرك في العمل في بعض الأحيان عما يعتقدونه تجاهك، وأن تطلب منهم تغذيةً راجعةً عن تصرفاتك، وأن تقبل النقد الذي تتلقاه ممَّن حولك.

بينما يُجيد العديدون استغلال نقاط قوتهم وتسخيرها في حياتهم حتى من دون أن يشعروا؛ يجد العديد من الناس صعوبةً في مواجهة نقاط ضعفهم؛ ما يمنعهم من إظهار مهاراتهم بالشكل الصحيح، وينعكس على حياتهم بأكملها بشكلٍ سلبي. ولكن باستطاعة الجميع مواجهة نقاط ضعفهم؛ فمواجهة نقاط ضعفك شبيهة بمواجهة مخاوفك، أو حيوانٍ مخيف أو مفترس يحول بينك وبين طريقك نحو النجاح.

للتغلب على هذا الحيوان الذي تخاف منه، فإنك بحاجةٍ إلى الشجاعة في بداية الأمر، والإصرار على الوصول إلى هدفك، وأن تتجاوز بعض الجراح التي قد تتعرَّض لها عند مواجهتك له. وأما إن كنت تحمل السلاح المناسب فإن تَغلبك على هذا الحيوان سيكون أسهل بكثير.

 وفي حالتنا هذه فإن أفضل سلاحٍ لمواجهة نقاط ضعفك، هو أن تستغل نقاط قوتك في مواجهتها؛ فبإمكانك أن تكتب نقاط ضعفك ونقاط قوتك، وأن ترى ما الذي تستطيع استغلاله من نقاط قوتك لمواجهة كل نقطة ضعفٍ لديك، وأن تبدأ بمواجهتها واحدةً تلو الأخرى؛ فغالبًا نستطيع التغلب على جميع نقاط ضعفنا بقليل من التحفيز الذاتي والاستمرار والتمرين والممارسة والتركيز.

يقول «توم راث» و«باري كونتشي» في كتابهما الذي أصدراه في عام 2009 تحت عنوان «قيادة نقاط القوة.. القادة العظماء والفِرَق ولماذا يتبعهم الناس» إن الفرق الأكثر نجاحًا تمتلك مجموعة واسعة من نقاط القوة؛ حيث حددوا أربع مجموعاتٍ رئيسية لهذا النقاط:

1- التنفيذ: وهو القدرة على إنجاز الأشياء؛ حيث يتسم البارعون في التنفيذ بالمهارة، وفي تنظيم المهام والأحداث والأشخاص والتحكم بهم، وبثبات أدائهم، وبقوة التركيز التي لديهم، وأيهم جاهزون لتحمل مسؤولية أعمالهم.

2- التأثير: وهو القدرة على تسويق الأفكار، أو المشاريع، أو المهام، أو المواقف، أو المناهج التنظيمية للآخرين، والتأثير بهم، وإقناعهم بدعمها.

3- بناء العلاقات: وهو تشجيع الأشخاص على العمل معًا من أجل تحقيق هدفٍ أو طموحٍ مشترك بينهم.

4- التفكير الاستراتيجي: يُعد الشخص الذي يفكر بشكل استراتيجي، ماهرًا في تحليل المعلومات، واكتشاف الروابط والعلاقات، و«التفكير داخل الصندوق وخارجه» والاهتمام بالهداف البعيدة المدى مبكرًا.

وقد أظهر عالم النفس السويدي «أندرس إريكسون» أن منحنى تعلمنا يكون أشد صعودًا عندما ننخرط في ما سماها «الممارسات المتعمدة».. إنها فترات قصيرة من التركيز المكثف نتدرب فيها على مهارة ما في ظروف حقيقية نسبيًّا، وإذا ما قارنا فترات الممارسة هذه بالحصول على تقييم مباشر، فإن عملية التعلم تتسارع أكثر فأكثر إلى درجة الإتقان والتميز.

لهذا كان العرب يقولون: التكرار يعلم الشطار.

ويُطلق عالم النفس «ألبرت باندورا» على هذه الممارسة اسم «الإتقان الموجه»، ويجد أن بوسعنا تخطي المعوقات العاطفية المتجذرة فينا، التي تقف في طريق نجاحنا، إذا انخرطنا في مثل هذا التدريب على المهارات في ظروف يتحقق فيها المزيج المناسب من الأمان والتحدي. 

وفقًا لأحدث الأبحاث التي أجرتها شركة «ماركوس باكينجهام» المتخصصة بالتدريب الإداري، فإن ما يزيد عن 59% من القوى العاملة، تعتقد أنها ستكون أكثر نجاحًا إذا ركَّزت على إصلاح نقاط الضعف الخاصة بهم بدلًا من الاستفادة من نقاط القوة. ورغم الاعتقاد اللا واعي بأن نقاط الضعف هي الأكثر قابلية للتغيير، والأجدر باهتمامنا في الوقت ذاته، فإن هذا لا يمت إلى الواقع بأي صلة؛ إذ إن النهج الذي يعتمد على التركيز على إصلاح نقاط الضعف لا يُقدِّم أي نجاح على المدى البعيد مقارنةً بالنهج الذي يعتمد على تقوية نقاط القوة.

وتتلخص نقاط القوة الشخصية في العديد من الأمور نذكر منها على سبيل المثال الثقة بالنفس؛ فدائمًا يمتاز الذين يثقون بأنفسهم بأفضلية عن الذين يشكِّكون في أنفسهم وقدراتهم؛ وذلك لأن الواثقين بأنفسهم ذوي الإرادة القوية يلهمون الآخرين، ولديهم القدرة على إدارة المواقف. وكشفت الأبحاث الحديثة أن الواثقين بأنفسهم يكسبون أكثر، ويتسلقون السلم الوظيفي أسرع من غيرهم.

القدرة على جذب الناس وقراءة الآخرين، هما من أبرز نقاط القوة في الشخصية؛ حيث يمتلك بعض الناس جاذبية لدرجة أنهم يبدون أن الجميع يحبونهم، وأن الجميع يريدون أن يكونوا معهم. والجاذبية شيء يمكن لأي شخص تطويرها فعليًّا؛ ويكون ذلك بمحاولة بناء اتصال بالعين والابتسام، والنظر بطريقة هادئة ومريحة عند التحدث إلى الناس، إضافة إلى أن قراءة عقول الآخرين هي قوة عظمى يمتلكها أشخاص موهوبون، ولكن في الحقيقة فإن كل ما على الإنسان فعله لفهم عقول الناس هو الاستماع لهم، والتدرب على مهارات الاتصال المتنوعة.

القدرة على قول: «لا» والتحكم بردود فعل الجسم، هما من علامات القوة لدى الإنسان؛ فعدم القدرة على قول: «لا» من علامات قلة احترام الذات، فضلًا على ضبط النفس من أجل الوصول إلى هدفك. ويُعرَّف ضبط النفس بأنه قدرة الإنسان على التحكم في عواطفه وسلوكه، ويُعد ضروريًّا لبناء علاقات شخصية مع الناس وحياة مهنية ناجحة.

جميعنا ندرك بشكل أو بآخر أن هناك ما يميزنا أو يميز أبناءنا عن غيرهم، ولكن لسبب ما؛ إما أن نقرر تجاهل هذا الشيء ونركز على غيره، أو ندَّعي أننا نعرف نقاط القوة. ولكن في الحقيقة توجد نقاط لم نكن نعي أنها موجودة في شخصياتنا ومن حولنا.

لهذا ينبغي مراعاة نقاط القوة، وتقويتها والتركيز عليها وتطويرها، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المؤسسات، أو حتى على مستوى الدول.

وأخيرًا.. الاختبارات التطويرية –مثل اختبار نقاط القوة الوظيفية ديسك DISC، وأنماط الشخصية، وغيرهما– هدفها توضيح الغموض والخصائص الخفية في شخصيتك وسلوكك. ونتيجة هذه الاختبارات هي تحسينٌ لحياتك على الصعيدين الشخصي والعملي.

د. عبد الله القفاري @alqefari

Related Stories

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa