الحكومة الرشيقة

الحكومة الرشيقة

تكاثرت الأعمال على الحكومات ولا تدري ماذا تنجز من مشاريع، وهذا التراكم هو نتيجة طبيعية للتطور البشري وازدياد احتياجات الإنسان المعاصر.. لذلك تسعى الحكومات كافة لتغطية هذه المهام وتحاول جاهدةً أن تحقق دولة الرفاه لكلّ من يعيش على أرضها، ولكن حجم الأعمال التي تقوم بها الحكومات اليوم أقحمها في سلسلة لا متناهية من الإجراءات والعمليات ممَّا تطلب إنشاء المزيد من الأجهزة الحكومية، وهذا أدَّى إلى زيادة في عدد الوزارات تصل في بعض الدول إلى أكثر من مائة وزارة وجهاز حكومي مستقل.

وهذه الزيادة في الأعداد لا تحل المشكلة بل جعلها تتفاقم بشكل أكبر وهذا ملاحظ في ضعف الأداء الحكومي وسوء المخرجات، وهذه النتائج السلبية تفرض على الحكومات إعادة النظر في هياكلها الإدارية وطبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة، وهذا يستدعي الانتقال إلى تنظيمات جديدة تكون قادرة على استيعاب هذا التوسع الحاصل في أنشطة الحكومة دون إحداث تضخم في الجهاز البيروقراطي، أكبر مما هو حاصل الآن في الهياكل الحكومية المترهلة، بسبب هذه التراكمات.

وهذه المشكلة أصحبت الآن من أكبر التحديات التي تواجه الإدارة العامة اليوم. ومن أهم الأسئلة المطروحة على طاولة النقاش العلمي والعملي: ماهي الكيفية التي من خلالها نستطيع أن ندير هذا الجهاز البيروقراطي العملاق؟ وما هو النموذج المناسب لبناء وتصميم آليات التكامل والتنسيق بين مكوناته الأساسية؟ والجواب عن هذه الأسئلة يمكن وصفه بالسهل الممتنع حيث تكمن الإجابة في كلمتين هما: الخصخصة، والرشاقة.

بخصوص الخيار الأول، تتجه الآن أغلب دول العالم اليوم إلى خصخصة الأعمال الحكومية وإشراك القطاع الخاص فيما تقوم به من أعمال. وأغلب الحكومات بدأت في هذا الاتجاه خاصةً بعد ظهور النتائج الإيجابية للتجربة التاتشرية وما حققته من نجاحات في بريطانيا والتي أصبحت نموذجًا يحتذى لبقية دول العالم. وفي الآونة الأخيرة قامت السعودية بخطوات ناجحة في التحول من الاقتصاد الرعوي والاتجاه نحو الخصخصة وبدأ ذلك ببعض المشاريع الناجحة لتحويل بعض القطاعات مثل الاتصالات والطيران، وهناك خطط ومشاريع طموحة لخصخصة بعض القطاعات الأخرى مثل التعليم والرياضة وغيرها من المجالات. وهذا بلا شك يخفف من أعباء الحكومة ويستأصل الأجزاء الزائدة في جسدها. ولهذا السبب نشاهد عمليات الخصخصة قائمة على قدم وساق لأنها أحد أهم الوسائل الفعالة في تخفيف الضغط على القطاع العام.

ولكن المشكلة ليست في الخصخصة التي تسير بخطى ثابتة، المشكلة تكمن في صعوبة الخيار الثاني وهي (الرشاقة) وأقصد بذلك كيفية بناء منظومة إدارية تتصف بالمرونة وتتميز برشاقة الأداء وسرعة الإنجاز. وهذا مربط الفرس، وهذا ما سوف نركز عليه في هذا المقال، حيث أرى بأن الحكومات في العصر الحالي من الممكن أن تكون حكومات رشيقة وليست أخطبوطًا بيروقراطيًا مترهلًا.

وموضوع (الحكومة الرشيقة) كان محل نقاش عابر أثير في الصحف السعودية- في الفترة التي تلت التعديلات الوزارية التي أعلن عنها في بداية عهد الملك سلمان حفظه الله- حيث أطلق حينها الإعلامي المعروف تركي الدخيل على هذه التعديلات مسمى الحكومة الرشيقة، ويقصد بذلك تقليص عدد الوزارات من خلال ضم ودمج بعض الوزارات في وزارة واحدة.

ولكن هذا الوصف قوبل بالرد والاعتراض، وكتب الدكتور علي الموسى في جريدة الوطن: إنَّ الحكومة الرشيقة (هي التي تخفف من العوائق البيروقراطية، وتسهل الإجراءات وتنجز الأعمال بخطوات أقل، وليس في تقليص عدد الوزارات فقط). والتجارب تثبت صحة العبارة التي قالها الدكتور الموسى لأن تقليص عدد الوزارات من حيث الأرقام فقط لا يعتبر رشاقة بل إنَّ دمج الوزارات أو بعبارة أصح تكديس الأجهزة على بعضها البعض يؤدي إلى زيادة في أوزان الوزارات وتحويلها إلى ديناصور بيروقراطي أكبر من سابقه قبل عملية الدمج.

على ضوء ما سبق، نحن بحاجة إلى تشكيلات جديدة ومبتكرة للجهاز الحكومي حتى نصل إلى مفهوم (الحكومة الرشيقة) من حيث الشكل والمضمون وليس بأعداد الوزارات فقط. وللإيجاز يمكن تلخيص المشكلة بهذا السؤال: ما هي الأسس والمعاير التي يتم من خلالها فصل أو دمج القطاعات في الجهاز الحكومي؟

إذا كان المعيار هو التخصص الوظيفي نجد وزارات مثل وزارة التعليم تضم عددًا من القطاعات الكبرى يصعب دمجها في وزارة واحدة نظرًا لكثرة الأعمال التنفيذية التي سوف توكل لهذه الوزارة. وفي هذا يقول الدكتور غازي القصيبي رحمه الله: حجم إدارة التعليم في منطقة الرياض فقط أكبر من حجم بعض الوزارات الصغيرة. ويقول أيضًا: إن بعض الوزارات عدد كادرها بالكامل لا يتجاوز 800 موظف فقط موزعين على أنحاء المملكة كافة. لهذا فإن المعيار على أساس التخصص الوظيفي سوف يظهر تشوهات وتباينًا واضحًا بين أجزاء الهيكل الحكومي.

وإذا كان المعيار هو حجم الأعمال وأعداد الموظفين بمعنى تقسيم القطاع الواحد وتشتيته إلى عدة وزارات متساوية من حيث الحجم فهذا سوف يؤدي إلى مشاكل أكبر من أهمها: ازدواجية العمل، وتضارب السياسات، وتداخل الصلاحيات بين الأجهزة العاملة في نفس المجال. ناهيك عن الأمراض الإدارية المزمنة التي تعاني منها أغلب الدول النامية ومن أهم أعراضها قصور في الموارد البشرية، وضعف آليات التنسيق، وهناك شبه انعدام في التكامل المؤسسي، وطغيان العمل الفردي على العمل الجماعي.

وحتى تقترب الصورة بشكل أوضح، نأخذ على سبيل المثال ما كان حاصلًا في قطاع التعليم سابقًا حين كان مشتتًا بين عدة أجهزة على النحو التالي: وزارتين للتعليم، ومؤسسة عامة للتدريب، ورئاسة عامة لتعليم البنات، وكل جهاز من هذه الأجهزة يغرد لوحده. لذلك يمكن القول إن التقسيم بناء على حجم الأعمال أخطر من التقسيم بناء على التخصص الوظيفي.

وجميع التجارب السابقة تثبت أن الأجهزة العاملة في مجال واحد يجب أن تكون تحت مظلة واحدة حتى لا يكون هناك ازدواجية بالعمل. ولكن ما يزيد الأمر الصعوبة أن التجارب أثبتت أيضًا أن دمج هذه الاجهزة في جهاز تنفيذي واحد يجعلها تتحول إلى ديناصور بيروقراطي أكبر من سابقه كما ذكرنا. بعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى أجهزة تنفيذية يوفر لها نوع من الاستقلال المالي والإداري من أجل التفرغ لأداء مهام تنفيذية في مجال معين من مجالات هذا القطاع. وفي نفس الوقت هذه الأجهزة يجب أن تجمع تحت مظلة واحدة متخصصة تكون مسؤولة فقط عن رسم الخطط والسياسات والتنسيق بين هذه الأجهزة والإشراف العام عليها.

ومن بشائر الإدارة العامة، أنَّ الاتجاه نحو هذا الحلّ أصبح يظهر بشكل واضح مع التطورات المتلاحقة التي تحصل في عهد الملك سلمان حفظه الله. وهذا الذي شجعني على إعادة طرح الموضوع حيث نلاحظ الآن أن الهيكل الحكومي في السعودية أصبح يتجه نحو مفهوم إداري جديد يحل المشكلة التي سبق ذكرها وهذه تعتبر نقطة تحول في تصميم وبناء الجهاز الحكومي. لذلك سوف نحاول من خلال هذا المقال التركيز بشكل أكبر على قراءة هذه التطورات الجديدة في الهيكل الإداري للحكومة السعودية.

أفضل مثال لهذه التطورات هو نموذج وزارة الثقافة وهي وزارة جديدة تمَّ هيكلتها بشكل تنظيمي جديد ومبتكر، حيث وزعت أعمالها على عدة هيئات وكل هيئة لديها نوع من الاستقلال والتخصص بما يكفي للتفرغ لإنجاز ما تكلف به من برامج ومهام. وكل هيئة لديها استقلال مالي وإداري تعطي هذه الهيئات مساحة أكبر للتحرك خارج المظلة التي تتبع لها وهي وزارة الثقافة. ودور الوزارة في هذا الهيكل المبتكر هو الإشراف على هذه الهيئات ورسم الخطط والسياسات العامة. وكذلك تعتبر الوزارة هي حلقة الربط للتكامل بين هذه القطاعات العاملة في المجال الثقافي. والوزير كذلك هو أيضًا الرئيس الأعلى للمجالس العليا كافة لهذه الهيئات. أما من حيث التنفيذ فلكل هيئة رئيس تنفيذي متفرغ لإنجاز المشاريع وإدارة الأعمال التنفيذية مع موارد وميزانية مستقلة عن ميزانية باقي الهيئات.

هذا النظام الجديد أو نظام الهيئات المتعدد الذي تشرف عليه وزارة واحدة معمول به أيضًا في وزارة النقل حيث نجد أن الهيئة العامة للطيران المدني، والهيئة العامة لسكك الحديد، والهيئة العامة للموانئ أصبحت جميعًا تحت إشراف وزارة النقل بعد أن كانت مشتتة بين عدة وزارات ولكن مع التطورات الجديدة تم تحويل هذه القطاعات إلى هيئات عامة شبه مستقلة ولكنها تابعة لمظلة واحدة هي وزارة النقل. ودور الوزارة هو نفس الدور الذي ذكرته سابقًا عن وزارة الثقافة.

لذلك نحن أمام نظام إداري جديد يمكن أن نطلق عليه (نظام الهيئات) ونقصد بذلك الهيئات التي تشرف عليها وزارة واحدة بحيث تحول الأجهزة العاملة في نفس القطاع إلى هيئات وتدار جميعًا من قبل وزارة واحدة مختصة بالإشراف العام على هذا القطاع.

ولكن يوجد نقطة مهمة يجب التنبيه لها (حتى ينجح هذا النظام الجديد) وهي أهمية التفريق بين السلطة المركزية والتكامل الإيجابي في العلاقة بين الهيئات والوزارة التي تتبع لها. ويمكن تلخيص العلاقة بهذه العبارة: الوزارة هي مجرد جهة إشرافية وليست جهة تنفيذية. وهذا ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار، لأن أكثر ما يؤدي إلى فشل العملية الإدارية هو السلطة المركزية المتطرفة؛ لأنها ستحول الوزارات إلى مكينة بيروقراطية ضخمة من المعاملات اليومية، وهذا يشغلها عن دورها الأساس وهو رسم الخطط والسياسات والإشراف العام والمتابعة فقط. بعبارة أخرى، أن المقصود من تبعية هذه الهيئات للوزارة هو التكامل الإيجابي وتوحيد الجهود وليس السيطرة المطلقة من خلال السلطة المركزية.

كذلك يجب التنويه إلى نقطة أخرى أيضًا لتفادي الانزلاق إلى السلطة المركزية المتطرفة وهذا لن يتم إلا بمنح الهيئات التابعة للوزارة ما يكفي من الصلاحيات اللامركزية حتى تستطيع القيام بما تكلف به من أعمال. دون هذه الصلاحيات لن يتحقق الهدف المنشود من إيجاد نظام الهيئات.

وبخصوص التطورات الجديدة في عهد الملك سلمان يتبادر إلى ذهن الكثير هذا السؤال: هل هذا النظام الجديد الذي أطلقنا عليه في هذا المقال (نظام الهيئات) سوف يعمم على بقية الوزارات أسوةً بوزارة النقل ووزارة الثقافة. أم هي هياكل خاصة بهاتين الوزارتين فقط؟

الإجابة على هذا السؤال تفتح الباب لأهمية تطبيق هذا النظام على العديد من الوزارات التي هي بحاجة إلى مثل هذا النظام المرن. ولنأخذ على سبيل المثال وزارة التعليم وهي كما ذكرنا سابقًا أكبر وزارة في السعودية من حيث عدد المنتسبين سواءً طلابًا أو موظفين أو أعضاء هيئة تدريس. ويصل العدد إلى أرقام فلكية بالمقارنة مع الوزارات الأخرى.

هذا من حيث العدد أما من حيث المهام فهي تدير عدة قطاعات كبرى مثل قطاع التعليم العالي والجامعات والبحث العلمي، وقطاع التعليم العام، وأضيف مؤخرا قطاع التدريب والتعليم المهني. وللوزارة كذلك فروع دولية تتمثل في إدارة الملحقيات الثقافية في الخارج وإدارة برنامج الابتعاث في دول العالم كافة.

ومن حيث المشاريع فهي تسعى إلى خصخصة الجامعات وتطوير المناهج وإحداث تغييرات في بنية وتركيبة النظام التعليمي وغيرها من المشاريع الطموحة التي لا يعترض عليها أحد من حيث الفكرة ولكن السؤال: هل تستطيع جهة واحدة فقط أن تخطط، وتنفذ، وتشرف، وتتابع، كل هذه المشاريع بالتزامن مع إدارة الأعمال البيروقراطية الملقاة على كاهل الوزارة.

لهذه الأسباب، فإن وزارة التعليم وغيرها من الوزارات هي أولى بمثل هذا التنظيم الجديد نظرًا لحجم الوزارة وكثرة المشاريع والقطاعات والأهداف التي تكاثرت عليها. لذلك من الأفضل أن يعاد النظر في هيكلة وزارة التعليم وأن يعاد تنظيم القطاعات التابعة للوزارة بما يتوافق مع نظام الهيئات. ويمكن على سبيل المثال ومن أجل التوضيح فقط أن توزع أعمال الوزارة التنفيذية إلى عدة هيئات تكون تابعة للوزارة وذلك على النحو التالي:

1. الهيئة العامة للتعليم العالي.

2. الهيئة العامة للبحث العلمي.

3. الهيئة العامة للتربية وتعليم البنين.

4. الهيئة العامة للتربية وتعليم البنات.

5. الهيئة العامة للتدريب والتعليم المهني.

6. الهيئة العامة لتقييم التعليم والتدريب.

هذا مجرد مثال توضيحي للإشارة إلى خطورة دمج القطاعات الكبرى في جهاز تنفيذي واحد أو وزارة واحدة، لأن هذا سوف يؤدي إلى نتائج سلبية سبق الحديث عنها. ولذلك من الأفضل أن يخصص لكل مجال من مجالات التعليم جهاز إداري مستقل مع الحفاظ على وجود مظلة واحدة من أجل التنسيق والتكامل كما ذكرت سابقًا. وفي هذه الحالة تكون المظلة هي وزارة التعليم. وبهذه الطريقة نستطيع أن نحقق لهذه الهيئات الاستقلالية الكافية من الناحية الإدارية والتنظيمية مما يحقق الأهداف المنشودة التي من أهمها تحقيق الكفاءة في الأداء وتركيز الجهود، وهذا أفضل من وضع الوزارة الآن التي تكاثرت عليها الظباء.

ومن ناحية أخرى، فإن التحول إلى نظام الهيئات يحافظ أيضًا على استمرار تبعية هذه القطاعات لوزارة التعليم وبقاء الوزارة كمظلة شاملة تشرف على قطاع التعليم وهذا أفضل من تشتيت القطاع إلى عدة وزارات ومؤسسات مستقلة كما كان حاصلًا في السنوات الماضية. وبهذا المثال تتضح أهمية تعميم نموذج وتجربة وزارة الثقافة ووزارة النقل على بقية الوزارات.

في الختام يجب التنبيه إلى أمر مهم وهو أنه لا يوجد هناك شكل نهائي وثابت للهيكل الإداري؛ لأن الهيكل الإداري هو عملية لا متناهية ويحتاج مع مرور الوقت إلى التعديل والتطوير حسب الحاجة والظروف والبيئة المحيطة. وما يكون مناسبًا في عصرنا هذا قد لا يكون مناسبًا في أزمان قادمة. ولكن في الظروف الحالية أرى بأن ما أطلقنا عليه (نظام الهيئات) سيساهم في تحويل الحكومة السعودية إلى حكومة رشيقة.

Related Stories

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa