في الوقت الذي يتسابق فيه العالم مع حالة طوارئ صحية عالمية مثل فيروس كورونا المستجد، فإن هناك من يعقدون المقارنة مع وباء آخر، هو وباء الإنفلونزا الذي عصف بالعالم قبل أكثر من 100 عام، ورغم الأمنيات في أن يكون الفيروس الأحدث ليس بنفس سوء الأقدم، إلا أن وباء إنفلونزا عام 1918 كانت له عواقب طويلة المدى، لعل منها الطريقة التي تقدم بها الدول الرعاية الصحية حتى يومنا هذا، فهل سيفعل الفيروس الجديد نفس الشيء؟
حسب الخبراء، فقد أودى وباء إنفلونزا عام 1918 بحياة 50 مليون شخص على الأقل، وقد جاء في ثلاث موجات، موجة خفيفة نسبياً في الأشهر الأولى من عام 1918، أعقبتها موجة ثانية أكثر فتكاً بكثير اندلعت في أواخر أغسطس من نفس العام وانحسرت في نهايته، ليعود في الأشهر الأولى من عام 1919 بموجة ثالثة وأخيرة متوسطة الخطورة، فيما حدثت الغالبية العظمى من الوفيات في الأسابيع الـ 13 بين منتصف سبتمبر ومنتصف ديسمبر 1918، حيث كانت موجة من الموت هى الأسوأ منذ الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وربما في كل تاريخ البشرية.
الفرق بين الإنفلونزا والكورونا المستجد
الحقيقة التى يقرها الخبراء، أن الإنفلونزا والكورونا المستجد مرضان مختلفان، لكنهما يشتركان في أشياء معينة، فكلاهما من أمراض الجهاز التنفسي، تنتشر بالتنفس واليدين وعبر الأسطح، وكلاهما يسببهما فيروسات وكلاهما معدٍ للغاية، وفيما يقتل الكورونا نسبة أعلى بكثير من الإنفلونزا الموسمية، إلا أنه ليس من الواضح بعد كيف يصل من حيث الفتك إلى وباء الإنفلونزا الذي تسبب في كارثة عام 1918.
وحسب الخبراء، يشترك أيضاً كلاهما في التصنيف بما يعرف بأمراض الحشد، التي تنتشر بسهولة أكبر عندما يتجمع الناس معاً بكثافة عالية، وهو أحد أسباب اتفاق المؤرخين على أن وباء 1918 سارع بإنهاء الحرب العالمية الأولى، حيث خسر كلا الجانبين الكثير من القوات بسبب المرض في الأشهر الأخيرة من الصراع، كما تتفاقم أمراض الحشد بسبب الفقر أيضاً، فعلى الرغم من أن الجميع عرضة لها؛ إلا أن أولئك الذين يعيشون في مساكن مزدحمة ودون المستوى هم أكثر عرضة للإصابة، كما يمكن أن يضر سوء التغذية والإرهاق والظروف الكامنة بالجهاز المناعي مع غياب الرعاية الصحية الجيدة، مما يعني أن البلدان الأقل نمواً تميل إلى المعاناة بشكل أسوأ، وفي الهند مثلاً مات ما يقدر بنحو 18 مليون هندي خلال إنفلونزا عام 1918، وهو رقم أعلى من أي دولة، ويعادل عدد القتلى في جميع أنحاء العالم خلال الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1918 كانت طريقة تفسير السبب مختلفة، حيث نظرت النخبة إلى الفقراء آنذاك على أنهم فئات أدنى، ومن ثم إذا مرضوا وتوفوا فإن الأسباب كانت متأصلة فيهم، بدلاً من العثور عليها في ظروفهم المعيشية السيئة في كثير من الأحيان، وعندما اندلع الطاعون في الهند عام 1896 على سبيل المثال، قامت السلطات الاستعمارية بحملة شملت إحراق المنازل الهندية، بينما كان انتشار المرض عن طريق براغيث الفئران، الأمر الذي كان يمكن السيطرة عليه بتفتيش البضائع المستوردة؛ بدلاً من إزالة المباني.
مفهوم مقاومة الفيروس
كان الفيروس مفهوماً جديداً نسبياً في عام 1918، وعندما وصل الأطباء إلى الإنفلونزا كانوا عاجزين تقريباً عن التعامل معه، فلم يكن لديهم اختبار تشخيصي موثوق ولا لقاح فعال ولا أدوية مضادة للفيروسات ولا مضادات حيوية تساعد في المضاعفات البكتيرية، التي قتلت معظم ضحايا الإنفلونزا في شكل التهاب رئوي، ويمكن أن تكون إجراءات مثل الحجر الصحي التي نستخدمها مرة أخرى اليوم فعالة، لكنها غالباً ما تم تنفيذها في وقت متأخر جداً، لأن الإنفلونزا لم تكن مرضاً يمكن الإبلاغ عنه آنذاك، وهذا يعني أن الأطباء لم يكونوا ملزمين بإبلاغ السلطات عن الحالات، مما يعني بدوره أن تلك السلطات لم تعلم شيئًا عن الوباء القادم.
وكان الدرس الذي استخلصته السلطات الصحية من هذه الكارثة، هو أنه لم يعد من المعقول إلقاء اللوم على الأفراد للإصابة بأمراض معدية أو علاجهم في عزلة، فشهدت عشرينيات القرن الماضي اعتناق العديد من الحكومات مفهوم الطب الاجتماعي والرعاية الصحية للجميع مجاناً في المراكز الصحية، وكانت روسيا أول دولة تضع نظاماً مركزياً للرعاية الصحية العامة تموله عبر خطة تأمين تديرها الدولة، لكن ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة تبعتها في النهاية، واتخذت الولايات المتحدة الأمريكية مساراً مختلفاً، مفضلة خطط التأمين القائمة على صاحب العمل منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، فيما اتخذت هذه الدول خطوات لتعزيز الرعاية الصحية وتوسيع نطاق الوصول إليها في سنوات ما بعد الإنفلونزا.
كما قامت العديد من البلدان أيضاً بإنشاء أو تجديد وزارات الصحة في عشرينيات القرن العشرين، كما أقرت الدول بضرورة تنسيق الصحة العامة على المستوى الدولي، حيث أصبح من الواضح أن الأمراض المعدية لا تحترم الحدود، وشهد عام 1919 افتتاح مكتب دولي لمكافحة الأوبئة في فيينا بالنمسا، جنباً إلى جنب مع الفرع الصحي لعصبة الأمم فمنظمة الصحة العالمية اليوم، وبعد مرور مائة عام على إنفلونزا عام 1918 تقدم هذه المنظمة استجابة عالمية لتهديد عالمي، لكنها تعاني نقص التمويل وتجاهل الكثير من الدول لتوصياتها.
لقد ظهر فيروس كورونا المستجد في الوقت الذي تناقش فيه الدول الأوروبية ما إذا كانت أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها لا تزال صالحة، بعد أن أصبحت تحت ضغط من السكان الأكبر سناً، بينما تناقش الولايات المتحدة مدى عالمية نظامها، واعتماداً على مدى سوء الوباء الجديد، فقد يجبر الجميع على إعادة التفكير، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال رأينا مناقشة ساخنة لتكاليف وتوافر اختبار الفيروس، الذي يمكن أن يساعد في إحياء مقترحات لجعل الرعاية الصحية بأسعار معقولة أكثر، وفي أوروبا يمكن أن يشعل تفشي المرض جدلاً طويلاً حول ما إذا كان يجب على الناس الدفع مقابل استخدام الخدمات الصحية الوطنية، ولكن المؤكد أن ما يحدث يذكرنا بأن الأوبئة مشكلة اجتماعية وليست مشكلة فردية.