قبل الستينيات من القرن الماضي، وبالتحديد قبل ظهور وانتشار اللقاح المضاد للحصبة، كان يُنْظَرُ للإصابة بالحصبة باعتبارها ضرورة صحية، ولذلك كان الملايين -وكثير منهم من الأطفال- يصابون بالفيروس كل عام، مما يجبرهم على تحمل مرض شبيه بالإنفلونزا مع الطفح الجلدي المعروف، مقابل منح مناعة ضد هذا المرض مدى الحياة، ونتيجة لذلك ما زال البعض يعتبرون الحصبة غير ضارة نسبيًّا، الأمر الذي أدى بدوره -بالإضافة إلى مشاعر الرفض الخطيرة للقاح الحصبة- إلى رفض بعض الآباء تلقي أطفالهم للقاح، مما ساهم في عودة ظهور المرض مرة أخرى.
ومع ذلك هناك دراسات ذات صلة نُشِرَت بعضها في مجلة العلوم، وقد أظهرت نتائجها خلافًا واضحًا مع الأسطورة القائلة إن الحصبة ليست خطيرة، وحسب أحد هذه الدراسات بالإضافة إلى كون الحصبة مرضًا خطيرًا بحد ذاته، يمكن للحصبة أيضًا أن تقضي فعليًّا على الجهاز المناعي للشخص، تاركة له نقص أو فقدان المناعة، الذي يجعله أكثر عرضة للأمراض الأخرى، كما عرف الأطباء منذ فترة طويلة أن الحصبة تهيئ المصابين بأمراض أخرى؛ حيث يمكنها التسبب في مضاعفات خطيرة مثل الأضرار العصبية، لكن العديد من الوفيات العالمية المرتبطة بالحصبة والتي تصل إلى نحو 110 آلاف حالة كل عام، تأتي فعليًّا من عدوى متزامنة مثل الالتهاب الرئوي، حسب الدراسات الجديدة التي تعد الأولى في توضيح سبب حدوث ذلك.
وذكر الباحثون أنه في كل مرة نتعرض فيها لمسبِّبِ المرض، يتعرف نظام المناعة لدينا على هذا العامل المُمْرِضِ ومن ثَمَّ يبني المناعة ثم يخزنها في صورة ذاكرة مناعية، ومع ذلك يبدو أن فيروس الحصبة يهاجم خلايا الذاكرة هذه، مما يترك المصابين بفعالية بنظام مناعة لم يعد يتذكر مسببات الأمراض التي قام بالفعل ببناء المناعة لها من قبل، وبالتالي تضعف قدرته على محاربتها مستقبلًا.
وقد أجرى الباحثون دراستهم في جزء من هولندا به معدلات تحصين منخفضة للغاية ضد الحصبة، وقاموا بتحليل عيّنات الدم من مجموعة مكونة من 26 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 4 و 17 عامًا ممن لم يتلقوا التلقيح ولم يسبق لهم الإصابة بالحصبة، مما يعني أنهم قد يصابون بالعدوى، وقد قام الباحثون بهذا التحليل عندما كانت العينة بصحة جيدة ومرة أخرى بعد تفشي مرض الحصبة في المجتمع، وقد كشف اختبار عينة الدم أن الأطفال الذين تعافوا من الحصبة لديهم العدد الصحيح من كريات الدم البيضاء، وهو أمر ضروري لتكوين استجابة مناعية ومكافحة الأمراض، لكن التسلسل كشف أن أنواع خلايا الدم البيضاء لم تكن صحيحة؛ حيث تتعافى خلايا المناعة لدينا إلى الأعداد الطبيعية بعد الإصابة بالحصبة، ولكنها لم تعد خلايا الذاكرة المناعية نفسها.
وفي دراسة أخري ذات الصلة بنفس المجلة، قام الباحثون بتحليل نشاط الأجسام المضادة للأطفال قبل وبعد الإصابة بالحصبة، ووجدوا أنهم بعد شهرين من الشفاء فقدوا ما يصل إلى 73 في المائة من تنوع الأجسام المضادة لديهم، وحسب الباحثون فإن الفيروس لم يقتصر فقط على القضاء على خلايا الذاكرة، بل قام أيضًا باستبدالها بخلايا جديدة توفر المناعة ضد عدوى الحصبة في المستقبل؛ لذا في حين أن الأشخاص الذين يصابون بالحصبة يتمتعون بالحماية من نوبات هذا الفيروس في المستقبل، فإنهم على ما يبدو يتركون دون حماية من مسببات الأمراض الأخرى المعروفة سابقًا، ومن ثم يصبحون غير مؤهلين للاستجابة لمرضيات جديدة.
وقد أكد الباحثون وصولهم إلى هذه النتيجة عن طريق إصابة القوارض الملقحة بالإنفلونزا بمرض يشبه الحصبة، وبعد الإصابة لم تعد الحيوانات تتمتع بحصانة ضد الإنفلونزا، وعانت من أعراض الإنفلونزا الشديدة، مقارنة بالحيوانات التي ظهرت عليها الإنفلونزا قبل الإصابة بالحصبة، وحسب الباحثون فإن الحصبة تجعل نظام المناعة لدينا أكثر شبهًا بالطفل، والأطفال أكثر عرضة للإصابة بالعدوى لأن نظام المناعة لديهم ما زال ينضج، وهذا ما تفعله الحصبة، ولعل الأبحاث المستقبلية ستركز على معرفة كيف تدير الإصابة بالحصبة هذا العمل الفذ، فيما يعتقد أن الإجابة تكمن في قدرة الفيروس على التسلل إلى النخاع العظمي وتغييره، وهو خزان الجسم للخلايا المناعية.
ويعتقد الباحثون أنه قد تكون هناك حاجة إلى مزيد من البحوث في هذا الإطار، ولكنهم يؤكدون في الوقت نفسه أن هناك الكثير من الأدلة لدعم التطعيم ضد الحصبة الآن، وما تبينه هذه الدراسة هو أن التطعيم مهم حقًّا ليس فقط لحمايتنا من المرض نفسه، ولكن أيضًا لحمايتنا من الأمراض الأخرى.