مرآة للتاريخ، ورمز للأصالة، وجزء من الهوية الوطنية الضاربة في أعماق الموروث الشعبي، هكذا يُنظر إلى الإبل في المملكة، فهي حاضرة في الذاكرة الثقافية، وفي تفاصيل الحياة اليومية، وفي المهرجانات الرسمية التي تحظى برعاية ملكية.
فحضورها في الوجدان الجمعي ليس مجرد ارتباط بالماضي، بل امتداد للحاضر وبوصلة للمستقبل، بعدما تحولت إلى رافد اقتصادي مهم يسهم في دعم الحركة التجارية والاستثمارية، ويجذب أنظار المهتمين من داخل المملكة وخارجها، ضمن قطاع يزدهر عامًا بعد الآخر، ليجمع بين الموروث والحداثة،في مشهد يعكس رؤية المملكة في استثمار مواردها غير التقليدية.
وبرزت مزادات الإبل في السنوات الأخيرة كمنصات اقتصادية نابضة بالحياة، تسهم في تحريك السوق المحلي وخلق فرص استثمارية جديدة.
يأتي في مقدمة هذه المزادات: مزاد مدرج للإبل في القصيم، الذي بات علامة بارزة في خارطة الفعاليات الاقتصادية والتراثية، وخاصة وأنه يشهد حضورًا واسعًا من المستثمرين والملاك والجماهير، وتُبرم فيه صفقات بملايين الريالات.
وانطلقت الجمعة الماضية «فعاليات مزاد مدرج للإبل» في نسخته الثامنة، بمركز مدرج بمنطقة القصيم، بمشاركة عددٍ من الجهات الحكومية والخاصة، والتي تستمر لمدة خمسة عشر يومًا.
ومنذ وقت مبكر، شرعت بلدية شري في تجهيز موقع المزاد، بتوجيه من -أمير منطقة القصيم- الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز.
فقد نُصبت أكثر من 200 شبك مخصص لعمليات البيع والشراء، وزُود الموقع بأكثر من 200 عمود إنارة، إلى جانب تجهيز مخيمات للضيافة، ومرافق خدمية متكاملة، تليق بمكانة المنطقة وطموحات زوارها.
كما خُصصت أمسيات شعرية يحييها أبرز شعراء النبط، لتمنح المزاد بعدًا ثقافيًا إلى جانب بعده الاقتصادي، فيما شملت التجهيزات أيضًا أسواقًا متكاملة تضم المطابخ والمطاعم، وأركانًا للتمور والعسل، ومناطق ترفيهية للأطفال، وأكثر من 100 خيمة للأسر المنتجة.
لم يعد المزاد حكرًا على ملاك الإبل والمستثمرين فقط، بل تحول إلى كرنفال اقتصادي متكامل تستفيد منه مختلف شرائح المجتمع.
فالأسر المنتجة تعرض منتجاتها، والتجار يجدون فرصة لتسويق سلعهم، والقطاع الخدمي يشهد نشاطًا متزايدًا، ما يعكس الأثر الاقتصادي الشامل الذي يتركه المزاد على المنطقة.
إلى جانب دوره الاقتصادي، أولت بلدية شري اهتمامًا خاصًا بالبعد الحضري والبيئي، حيث زُرعت أكثر من 10 آلاف متر مربع من المسطحات الخضراء، مع تكثيف أعمال النظافة والرش والتعقيم، في خطوة تعكس التزامًا بمعايير جودة الحياة ورؤية المملكة 2030.
يحظى المزاد برعاية نادي الإبل بقيادة الشيخ فهد بن حثلين، حيث أعلن النادي عن تواجد فريق توثيق في الموقع لتسجيل بيانات الإبل وتعزيز المصداقية.
كما يأتي ضمن روزنامة مزادات الإبل بالقصيم التي اعتمدها أمير المنطقة، وتشمل إلى جانب مزاد مدرج مزاد العقيلات في أكتوبر المقبل.
هذه الرزنامة المنظمة تمنح قطاع الإبل إطارًا احترافيًا ومستدامًا، وتؤكد على جدية التعامل مع هذا القطاع كقوة اقتصادية وثقافية.
القيمة الحقيقية لمزاد مدرج تكمن في جمعه بين أصالة التراث وقوة الاقتصاد؛ فهو يعيد الاعتبار للإبل كمكون ثقافي، وفي الوقت نفسه يفتح أمامها أبواب الاستثمار الحديث.
وهنا تتجسد رسالة المزاد: أن الإبل في المملكة ليست مجرد ذكرى من الماضي، بل ثروة للمستقبل، ومجال استثماري يزداد اتساعًا.
ولم يعد مزاد مدرج للإبل مجرد سوق لبيع وشراء الإبل، بل تحول إلى حدث اقتصادي وثقافي واجتماعي متكامل، يجمع بين ترسيخ الهوية الوطنية وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي. وهو نموذج بارز على قدرة المملكة على تحويل موروثاتها إلى قوة اقتصادية ناعمة ترفد التنمية، وتفتح آفاقًا استثمارية جديدة، وتعزز من حضورها كوجهة رائدة في مجال فعاليات الإبل عالميًا.
تكتسب أهمية مزاد مدرج بعدًا آخر كونه يسبق مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل في نسخته العاشرة، المقرر انطلاقه في ديسمبر المقبل برعاية ملكية.
هنا لا تقتصر المنافسة على البيع والشراء، بل يمتد المزاد ليكون محطة تحضيرية كبرى، يختبر فيها الملاك جاهزية إبلهم، ويعرضونها أمام المستثمرين قبيل دخول غمار المنافسات الرسمية، ما يرفع من حدة الترقب ويعزز من قيمة الصفقات.