آلمنا حقاً ما حصل من بعض مدّعي حرية الرأي في الغرب ممن أساؤوا للنبي الكريم بالرسم، أو بالكتابة، أو بالقول، ومن الطبيعي أن يغضب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لما حصل، وهذا أمر منطقي لا غرابة فيه إلا من جاهل أو حاقد، فلو وقعت إساءة لبوذا لحزن البوذيون واحتجوا، ولو أن امرأ شتم البراهما لغضب الهندوس أيما غضب، ولو تعرّض النبي موسى «عليه السلام» لإهانة لأقام اليهود الدنيا ولم يقعدوها، وهكذا الحال في كل ما يمس عقائد الناس وأديانهم.
وحتى لو تساهل بعض الغربيين بهذه الناحية بحيث يرون أن ذلك يندرج تحت سقف «حرية الرأي والتعبير»؛ لأنهم وصلوا إلى حالة متقدمة من التمدن؛ فذلك لا يعفي النخب منهم من احترام معتقدات الشعوب الأخرى التي قد تخالف آراءهم، ومن باب القياس بنفس المقياس «حرية الرأي التعبير» هذه الحرية التي تفرض عليك أن تحترم رأيي حتى لو خالف رأيك.
بدأ دين الإسلام بالنبي الكريم محمد «صلى الله عليه وسلم» وحيدًا لا ثاني له، متعبدًا في غار حراء بجبل النور بمكة المكرمة، وأول من آمن بالرسالة الحق السيدة خديجة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم انتشر الإسلام في مكة وأشرق نوره على العالمين حتى بلغ عدد المسلمين اليوم أكثر من مليار وستمائة مليون إنسان ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها.
وكلنا يعلم ما تعرض له الرسول الكريم وصحبه في بداية الدعوة من ظلم، وحيف، وتنكيل، وقهر، وتجويع، وحصار اقتصادي، وتعذيب، وأخيراً القتل، ومِنْ مَنْ!؟ من أهلهم الأقربين!.
وبالرغم من ذلك أمره الله تعالى بالرفق واللين والقول المعروف (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل آية {25} كذلك ورد عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة) ولو أردنا أن نورد أمثلة تؤكد سماحة الإسلام ودعوته للرفق واللين والحب والسلام لوجدنا أدلة من القرآن والسنة لا تعد ولا تحصى، ولا يكاد يختلف عاقلان اثنان على أن دين الإسلام هو دين المحبة والتسامح وتقبل الآخر، هل نسينا قصة الجار اليهودي الذي كان يؤذي النبي فلما مرض الجار عاده النبي في داره، فأين منّا التأسّي برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؟!.
أين من التسامح قتل الأطفال وإن كان «لا دين لهم»؟، وأين منّا اللين وعدم ترويع الآمنين من المدنيين وأين منّا الرفق وعدم تدمير الممتلكات ونشر الرعب والدمار في أرجاء المعمورة؟.
هل نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل قوم قبلنا حقت عليهم كلمة الله، هل نسينا وصية النبي الكريم لجيش المسلمين في غزوة مؤته: «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعته ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً».
الجرائم التي حصلت في شتى أصقاع الأرض ووُسم الإسلام بها ظلماً لأن من قام بها نسبوا أنفسهم للإسلام، وهتفوا بعبارة «الله أكبر» وهم ينفذون جرائمهم، في لندن، في باريس، في أمريكا، في تركيا، وفي ألمانيا، ولنضرب مثلاً حوادث الدهس والقتل في ألمانيا التي استقبلت ملايين المسلمين الفارين من ويلات الحروب في بلادهم وآوتهم واحتضنتهم، وحادثة الدهس التي حصلت منذ سنوات في «نيس« الفرنسية التي راح ضحيتها كثير من البشر جميعهم مدنيون، ومنهم مسلمون، وكذلك قتل الكاهن «جاك هامل» الذي ذبحه المجرمون في كنيسة «سانت اتيان دو روفريه» في فرنسا التي يعيش فيها ملايين المسلمين والعرب، و«غزوة» بروكسل وأمثالها من أعمال الموت الأسود عار في جبين الإنسانية، والإسلام منها براء، بروكسل مدينة هادئة، وادعة، آمنة، ربع سكانها من المسلمين.
وليس أخيراً ذبح الفرنسي «صمويل باتي» الذي كان مدرساً في إحدى مدارس ضواحي العاصمة الفرنسية باريس على يد مراهق شيشاني يوم الجمعة 16 أكتوبر/تشرين أول من هذا العام 2020م وما تبع ذلك من تظاهرات مناصرة لذكراه ولحرية التعبير –وفقاً لمنظور معين مع التحفظ- ومظاهرات غاضبة من المسلمين ترافقت مع دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
كذلك حادثة يوم الخميس بتاريخ 29/10/2020م؛ حيث قتل ثلاثة أشخاص وأصيب عشرات آخرون في هجوم بسكين وقع بالقرب من كنيسة «نوتردام» في مدينة نيس الفرنسية، والجريمة التي وقعت في قلب مدينة «فيينا» عاصمة «النمسا» حين أطلق الإرهابيون النار من رشاشاتهم في ستّة مواقع مختلفة بالعاصمة في «هجوم إرهابي» أسفر عن قتلى وجرحى. وما تلا ذلك من إجراءات من قبل النمسا –والأوربيين- عموماً تصب في محاربة الإرهاب الذين أسموه «الإسلاموي» أو «الإسلاموفوبيا» للأسف، وهذا ما يؤلم كل من يعرف حقيقة الإسلام الوسطي السمح الذي حاول هؤلاء المجرمون جاهدين تشويهه لدى الآخر، ونجحوا إلى حد بعيد بحيث أصبحت عبارة «الله أكبر» إنذارًا للخطر، والمسجد بؤرة للتطرف... في نظر الغربيين طبعاً، وكثير من الشرقيين حتى!.
كل يوم تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار مفجعة تُنسب ظلماً للإسلام، هل هذا ما نبتغيه لنصرة ديننا ورد الظلم عن أهلنا المعذبين في الشام والعراق وغيرها من البلدان الإسلامية الجريحة!.
ثم لماذا لم تتجه غزوات هؤلاء شرقاً نحو منبع الإرهاب والفتن في العالم، إيران، تلك الدولة المارقة الداعمة للإرهاب بشهادات دولية ثابتة، وبأعمال واضحة لا تخفى على لب وعين من ألقى السمع وهو شهيد، هي آمنة مطمئنة لم يقربها «الغزاة» ولم تمشِ أقدامهم على أرضها حتى، المسألة يا سادة لا تحتاج إلى تحليل: هي والإرهاب في خندق واحد.
ولا يقولن قائل «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» البقرة الآية {194} لأن فقهاء المسلمين الثقات قد أجمعوا على أن هذه الأفعال المشينة تندرج تحت مسمى «المحرم بنوع» ولا يمكن أن يأتيها المسلمون لأنها ليست محرمة لاحترام حق الغير ولكنها «محرمة بالنوع» «المصدر موقع الشيخ ابن عثيمين».
ونترك مسألة تأصيل هذه الفكرة لأهلها في موضع الكلام، فيما إذا كنا هنا في حالة حرب أم سلم مع هؤلاء؟، وهل حالة الحرب -لو صحت- تبيح لنا قتل المدنيين؟، ما نود قوله هنا هو أن الأمر الذي لا يختلف عليه اثنين: هو أن الإسلام دين لين ورفق ومحبة لا دين عنف وقتل وإرهاب وحقد.
ثم لماذا لا نعبر عن حبنا لنبينا باتباع سنته وتعاليمه السمحة، وقبل ذلك هدي القرآن الكريم ونستذكر قوله تعالى "«فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿94﴾ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴿95﴾ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿96﴾ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴿97﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿98﴾ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿99﴾» سورة الحجرات، إذاً؛ الرد هو: سبح بحمد ربك وكن مع الساجدين، ليس بقطع الرؤوس وتفجير دور العبادة والمركبات بالآمنين.
عوداً على بدء نقول: لماذا لم يسجل لنا التاريخ أي حادثة تشير إلى أن الصحابة الأوائل عمدوا إلى الانتقام من المشركين، مع ما لقوه منهم من عذاب وتنكيل؟.
أما كان بالإمكان أن يعمد الصحابة إلى إحراق بيوت المشركين خلسة، أو أن يعقروا عيرهم في الفلاة، أو أن يخطفوا بعضاً من صبيتهم أو نسائهم!.
ترى: هل أخطأ عظماء الصحابة لأنهم لم يحرقوا دار أبي جهل!؟.