ما إن تسن الكثير من المؤسسات الحقوقية والصحفية الغربية سكاكينها تجاه السعودية فإنها ترفع فوق رؤوس سكاكينها ملفات مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير، وهذان الملفان يعطيان تلك الجهات الفرصة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ودغدغة المشاعر واستجرار العواطف، ولكن المتتبع في السنوات الأخيرة للقضايا التي تحدث في الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية يشعر أن حرية التعبير بدأ قمعها، وهذا ما يدعو للاستغراب.
بناء على دراستي التي نشرتها إبان تخرجي من جامعة سالفورد البريطانية في ٢٠١٦م بحثت عن حرية التعبير في السعودية وخصوصا المتعلقة بالصحفيين، ووجدت أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تحدد هذه الحرية وهي الدين والثقافة والتقاليد ونادرا يكون للعامل الحكومي دور في قمع حرية التعبير، لكن المساس بالملك أو الحكم أو العقيدة والطائفية يعرض صاحبه للمساءلة لا سيما وأن هذه المحددات تخل بالأمن القومي وهذا أمر مرفوض بالطبع.
وحرية التعبير لا يمكن إطلاقها على وجهها دون تقييد - فمثلا - في بريطانيا يمنع المساس بالملك في بلاط الصحافة والإعلام، كما يتم منع نشر المقالات المتطرفة للمنظمات الإرهابية؛ لكون ذلك قد يخل بالأمن القومي البريطاني، وإذا ذهبنا أكثر من ذلك فكثير من الدول الأوروبية والأمريكية لا تعطي الناس حرية تعبير مطلقة، بل يتم تقييدها وخصوصا في الإعلام الرسمي، فكم من صحفي أو مذيع طرد بسبب آرائه السياسية المناهضة للطرف الآخر.
لقد رأينا في السنوات الأخيرة أمثلة كثيرة للحد من حرية التعبير في الغرب عموما في الكثير من المجالات وخصوصا السياسية، وهو ما يدعو لاستغراب البعض، ولكن المتبصر في هذا الشأن يدرك أن حرية التعبير متاحة حتى تمس الأمن القومي فإذا مسته لم تعد حرية، وبالتالي فإن كل دولة تحدد ما هو الأمن القومي الذي يجب حمايته، بل إن حزبا مثل الحزب الديموقراطي الأمريكي قد يحدد ما هي حرية التعبير بأفعاله ويمنع الأحزاب الأخرى من ممارسة نشاطها وحقوقها السياسية.
يقول ليبرمان (1953) إن مفهوم حرية التعبير أمر أكثر تعقيدا مما نتصوره؛ لأنه لم يتم لحد الآن توضيحه بشكل دقيق ولم يتم استخدامه لإعلام الجمهور، وسوء الفهم هذا ممكن أن يكون ضاراً للجمهور لأنه يساهم في خلق التناقض بين حرية المعلومات وحرية التعبير وذلك بسبب الفشل في توضيح الروابط بين "الحق في أن تعرف،" و "الحق في أن تكتشف"، و "الحق في أن تقول"، وهذا يؤكد أن الغرب هو من يحدد مفهوم حرية التعبير وعلى الباقين التقيد به، ولكن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الغرب في حالة قلق من التعبير المتزايد تجاه مصالحه.
إنه لا يمكن إدانة السعودية أو أي دولة حول "حرية التعبير" بل إن كل مجتمع يحدد ذلك، - فمثلا - تغريدة في منصة (إكس) تجاه قبيلة ما قد تدعو لزعزعة الأمن وتفشي العنف، وهذا ما لا يفهمه الغرب، فهو يريدنا أن نكون نسخة منه، وهذا ما لا يمكن قبوله إذ تتميز المجتمعات العربية بالقبائل والعوائل الكبرى والعوائل الصغيرة، وبالتالي فإن حرية التعبير يجب أن تضمن للجميع أمنهم وسلامتهم.
بقي القول، إن السماح بحرية التعبير أمر غير مستحيل لكنه سيكون أمرا صعبا رغم تطور حرية الكلام في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك فهذه الحرية ينبغي أن تتقيد بالقيم الموجودة داخل المجتمعات.
ــــــ
صحفي باحث أكاديمي في جامعة كمبلوتنسي مدريد - بإسبانيا