وكيف بخر المايونيز حلم الاكتتاب والملايين..!!!
تحقيق في محرقة الأموال من إحصائيات الفشل العالمية إلى قصص الإفلاس المحلية إلى جانب النجاح وصناعة الثروة.
يمارس قطاع الأغذية والمشروبات سحرًا خادعًا لا يُقاوم فالصورة الذهنية لمطعم يغص بالزبائن وطوابير الانتظار ورنين أجهزة الدفع المستمر تخلق وهمًا ماليًا يُعرف بسراب التدفق النقدي والجميع يرى الأموال وهي تدخل لكن قلة فقط تدرك حجم الوحش التشغيلي الذي يلتهم معظم هذا الدخل خلف الكواليس.
وفي هذا التحليل نكشف الوجه الآخر للبزنس الذي يُصنف عالميا بالأشرس مستعرضين بلغة الأرقام كيف يمكن لخطأ بكتيري واحد أن ينسف خططا مليونية ولماذا تقول الإحصائيات إنك خاسر لا محالة إذا دخلت معتمدًا على شيف وليس على مدير.
إحصائيات الفشل المرعبة
تشير دراسة جامعة ولاية أوهايو الصادرة عام 2020 إلى أن 60 بالمائة من المطاعم الأمريكية تغلق أبوابها في العام الأول وترتفع النسبة إلى 80 بالمائة خلال خمس سنوات لكن هذه الأرقام في السياق السعودي قد تكون أعلى؛ نظرًا لارتفاع تكاليف الإيجار والعمالة والالتزامات التنظيمية والتراخيص مما يعني أنك تدخل معركة شرسة لجمع الفتات وبمخاطرة عالية جدًا قد تكلفك كل ما تملك.
مثلث المصنع والمتجر والفندق
تكمن خطورة المطاعم في كونها النموذج التجاري الوحيد الذي يجمع ثلاث صناعات متناقضة تحت سقف واحد وهي: مصنع كيميائي يتعامل بحذر مع مواد أولية وحرارة ومخاطر بكتيرية قاتلة ومتجر تجزئة يُدير مخزونًا سريع التلف يموت ويفسد خلال ساعات وإضافة إلى قطاع ضيافة يُدير توقعات البشر وأمزجتهم المتقلبة وأي خلل في ترس واحد من هذه العجلة يؤدي إلى انهيار المنظومة، وهنا تظهر المفارقة الصادمة فبينما تتمتع مشاريع الخدمات بهوامش ربح تصل لـ 40 بالمائة وتبيع الخبرة يجد صاحب المطعم نفسه يُقاتل من أجل هامش ربح صاف لا يتجاوز 10 إلى 15 بالمائة وهو محاط بحقول ألغام تشغيلية لا توجد في أي قطاع آخر.
فخ الشريك الشيف
يقع عشرات الآلاف من الشباب حول العالم في خطأ كلاسيكي قاتل حين يقرر الشاب دخول المجال فيبحث عن شيف ماهر ويشاركه معتقدا أنه امتلك مفتاح النجاح وهنا تبدأ الكارثة إذ يظن الشاب أن الطبخ اللذيذ هو البزنس، وينسى أن الشيف يتفوق في الجودة لكن غالبًا ما يفتقر لخبرة إدارة التكاليف والموارد البشرية والسلاسل اللوجستية، وهذا لا يعني عدم قدرته على التعلم بل يعني أن الشراكة الناجحة تتطلب فصل الأدوار بوضوح فالشيف يقود المطبخ ومدير تشغيل متفرغ يدير الأرقام والعمليات والمخزون.
وبعد سنة أو سنتين يكتشف الشريك الشاب أنه وقع في نفق مظلم؛ فتتراكم الديون ويأكل الهدر الأرباح وتعم الفوضى المكان رغم أن الأكل لذيذ والقاعدة الذهبية في عالم المطاعم تقول «إن وجود مدير تشغيل خبير يفهم لغة الأرقام والتكاليف وله مهارة إدارة المشروع أهم ألف مرة لنجاح وتأسيس المشروع من وجود شيف خمس نجوم»؛ فالشيف يوظف ليطبخ والمدير هو من يبني الشركة.
سم التطبيقات والهبات
وإذا نجوت من التحديات السابقة يواجهك سم قاتل آخر يتمثل في فخين لا يرحمان:
الأول هو غول تطبيقات التوصيل ذلك الشريك الذي لا يخسر أبدا حيث يقتطع نسبة تصل لـ 30 بالمائة من إجمالي مبيعاتك وليس من صافي ربحك؛ مما يعني أنه قد يلتهم هامش ربحك بالكامل ويتركك تعمل لديه مجانًا.
والثاني هو فخ الهبة أو الترند حيث يضخ المستثمر الملايين بناء على موضة سوقية عابرة؛ فيجد نفسه بعد أشهر قليلة عالقا بمشروع ضخم ومعدات مكلفة لمنتج مات سوقيًا وأقساط ديونه لا تزال حية.
القروض الانتحار المالي
تصنف المطاعم كمشاريع ملتهمة لرأس المال ومشكلتها الكبرى هي التكاليف الغارقة ويروي السوق السعودي قصة واقعية مؤلمة لمستثمر ضخ 10 ملايين ريال لتأسيس مطعم بديكورات رخام وأجهزة عالمية ثم تعثر المشروع، وعندما قرر التخارج والإغلاق بعد معاناة الخسائر اكتشف الحقيقة المرة بأن الديكورات المليونية قيمتها صفر للمستأجر الجديد والمعدات تباع بوزن الحديد وكانت النتيجة بيع الأصول بـ 60 ألف ريال فقط وهذا المشهد يتكرر أمام عيني في اتصالات الاستشارات باستمرار حيث يطلبون الحلول بعد أن حلت المعضلة والأموال ذهبت وتبخرت.
وأما الاعتماد على القروض فهو انتحار مالي صريح؛ لأنك ستقاسم البنك فتات أرباحك لتسديد الأقساط وعند التعثر لن تجد أصولاً عقارية تبيعها للسداد وستخرج من السوق مكبلاً بديون لمعدات وديكورات أصبحت خردة لا تساوي شيئا وهذا المشهد يتكرر كل عام مع رواد الأعمال الذين حلموا باستثمارات قصيرة الأجل وتحولت إلى كوابيس طويلة.
من الاكتتاب إلى الإفلاس
ولعل المثال الأقسى الذي يوضح كيف تلتقي المخاطر التشغيلية مع أحلام الثراء هو قصة صعود وسقوط سلسلة همبرغيني التي انطلقت في 2013 وتوسعت لتصل إلى 57 فرعا تقريبا ووصلت لنضج مالي أهلها للتخطيط لطرح 20 بالمائة من أسهمها في السوق الموازية نمو وكان الملاك على بعد خطوات من جني ثروة طائلة لكن في منتصف 2024 وقعت الكارثة حين تسبب مايونيز ملوث في حالات تسمم غذائي أدى إلى إصابة أكثر من 70 شخصا ووفاة حالة واحدة ولم يشفع التاريخ الطويل للشركة أمام غضب المستهلك فانهارت الثقة وتوقفت المبيعات وتراكمت الديون.
لكن يجب الإشارة إلى أن السقوط السريع لم يكن حادثة المايونيز وحدها بل تزامنها مع ضعف الاحتياطيات المالية وعدم وجود بوليصة تأمين شاملة تغطي التسمم الغذائي وهذا يعود لافتراض الإدارة أن سجل 11 سنة من النظافة والسلامة يعني عدم الحاجة للتأمين، وهنا الدرس الحقيقي لا تراهن على الإحصائيات بل على الاحتمالات المستقبلية فالمخاطر لا تنتظر إحصائياتك وفي 2025 وبدلا من إعلان سعر السهم صدرت أحكام ببدء إجراءات تصفية الشركة وإفلاسها.
التأمين حزام الأمان
وفي خضم هذه الأمواج المتلاطمة من المخاطر يبرز التأمين الشامل كطوق نجاة أخير وحاسم إذ لا يمكن اعتباره ترفا بل ضرورة قصوى فالمطبخ بطبيعته قنبلة موقوتة عرضة للحرائق وخطأ التسمم الغذائي يمثل الهاجس الأكبر لأنه كابوس قد يكلفك تعويضات بملايين الريالات - لا سمح الله - وهنا يتجلى دور التأمين ليتحمل هذه الفاتورة الباهظة نيابة عنك ويحمي الكيان من السقوط الحر.
النجاح عبر المؤسسية
ولكي نكون منصفين فإن النجاح الساحق في هذا القطاع موجود ولكنه محصور في من أدار المطعم كمؤسسة لا كدكان ولنا في تجربة البيك خير مثال حيث لم يعتمد نجاحه على وجود المؤسس في المطبخ بل على بناء نظام صارم يجعل طعم الدجاج في جدة مطابقا له في الرياض، وهذا ما فعلته ماكدونالدز عالميا حين حولت الطبخ إلى علم هندسي دقيق فالسر ليس في الخلطة فقط بل في القدرة على التكرار بنفس الجودة لآلاف المرات يوميا ودون تدخل بشري اجتهادي وهذا هو الفارق الجوهري بين مشروع ينمو ليصبح سلسلة وطنية وبين مشروع يموت بمجرد غياب صاحبه.
ومع ذلك فليس كل النجاح يتطلب تحولا لسلسلة وطنية بل هناك مطاعم صغيرة في حي واحد استقرت على فرع أو اثنين وحققت هوامش ربح 20 إلى 25 بالمائة لأنها فهمت سوقها الضيق واختارت التركيز على الكفاءة والجودة وليس التوسع الجنوني الذي يأكل رأس المال والنوايا الحسنة والنجاح قد يكون أن تدير مطعما صغيرا بكفاءة عالية وأرباح مستقرة بدلا من محاولة بناء إمبراطورية غذائية تنهار عند أول أزمة.
النظام طوق النجاة
ولكي تنجو وسط حقل الألغام هذا عليك:
أولا تقديم النظام على الفريق بتحويل مطعمك لمؤسسة عبر أدلة التشغيل ودليل الجودة ولا تجعله دكانا يعتمد على مزاجية الأشخاص.
وثانيا الانتباه لرأس المال العامل وهو الخطأ القاتل بدخول السوق بميزانية التأسيس فقط حيث يجب أن تمتلك سيولة تغطي رواتب ومواد لستة أشهر على الأقل؛ لأنك ستنزف كاش في البداية حتما فإذا كان رأس المال الأولي 500 ألف ريال فيجب أن تحتفظ بـ 300 ألف على الأقل كسيولة عاملة لتغطية ستة أشهر من الرواتب وحوالي 30 إلى 40 بالمائة من التكلفة الشهرية والمواد الأولية وكثير من المطاعم تفشل في الشهر الثالث لأنها استنزفت كل رأس المال في الديكور والتجهيزات ولم تترك هامش أمان.
وثالثا استخدام إدارة المخاطر كدرع لحماية الكيان أهم من الربح فنظام سلامة الغذاء الصارم هو بوليصة التأمين الوحيدة ضد الإفلاس والتفتيش الدوري والمراقبة المستمرة ليست بيروقراطية بل استثمار في البقاء.
الخلاصة والحقيقة المرة
وفي النهاية فإن قطاع المطاعم يمنحك أعلى احتمالية للتوسع والثراء الفاحش عبر السلاسل ولكنه في المقابل يحمل أعلى احتمالية لمحق رأس المال بالكامل في غمضة عين فلا تأكل بعينك ولا تغرك الزحمة، وتذكر أن خلف كل كاشير يضج بالمال مصاريف ومخاطر تتربص لابتلاعه وإذا تيقنت من القرار فاستثمر ألف مرة في التحضير وادرس سوقك ستة أشهر قبل الإطلاق وابن نظام تشغيل صارم قبل فتح الباب وجميل أن تستعين بمستشار أو صاحب خبرة واحم نفسك بتأمين شامل واحتفظ بسيولة كافية؛ لأن قطاع المطاعم ليس لعبة الحظ بل لعبة من يعرف قواعدها ويلتزم بها.