بعد أن سيطرت جائحة كورونا على العالم منذ شهور مضت، ومازالت تَبِعات آثارها تتوالى، ومازال أنين الألم يقرع أنحاءه، ومازالت المخاوف تسكن النفوس.. أحدث الوباء في دواخلنا بعثرة وفوضى للمشاعر، وفي أعماق النفس البشرية تساؤلات هل هذا حلم؟ أم كابوس؟ أم أنّنا نشاهد فيلم إثارة وخيال نترقّب وقت انتهائه؟!
في الحقيقة استيقظنا على عالم جديد؛ عالم لم نألفه، وملامح حياة بتفاصيل غريبة عنّا ووقت يمضي ولم نَعْتَد بعد على كيفية إدارته، جدول أعمال جديد يحتاج إلى استيعابه وفهمه، وقائمة مهام تتطلّب إعادة ترتيب أولوياتها..
في كلِّ لحظات العزلة التي صاحبت أيام الحجر الصحي، كلٌّ منا كانت له وقفة مع ذاته، وقفة تكاد توصف بأنّها مفترق طرق، كم ثمّنا اللحظات الجميلة؟! وكم قدّرنا روتين حياتنا اليومي السابق الذي كان في يوم من الأيام موضوعًا للتذمّر والشكوى، وعندما استرجعنا شريط الذكريات أدركنا كم من بِحار النِّعم كنا نغرق بها وننعم، حيث جاءت فترة الحجر كأنَّها بمثابة ضوء تسلّط على مميزات حياتنا السابقة بعد ما صحونا من هذه الغفلة، لاستيعاب كل ما يحدث حولنا من أحداث وتطورات أيقن البعض أنَّ هذه الحياة الدنيا ما هي إلا لعب ولهو، وأنَّ الحياة الحقيقيّة هي الدار الآخرة، فبدأوا في رحلة البحث عن السلام الداخلي بالتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى لإرواء الظمأ الرّوحي الذي أحدثته كورونا من هلع وخوف وترقّب ووساوس تطول كلَّ شيء يتعلق بحياتهم، فأصبح البعض يعاني من الاكتئاب ووحشة الشعور وحزن القلب، وأصبح ضحيّةً لأنياب القلق وفريسة للعزلة الموحشة...
فقد الكثير ورقته الرّابحة في التأثير على الآخرين؛ لأنها كانت ترتكز على ملذّات الحياة وسطحية مبادئها فخفت وهجه وتلاشى بريقه وضعف فكره أو بالأحرى أغلقت منافذ الإثراء لديه. فأصبح بلا هدفٍ وبلا محتوى! استغني الكثير عن الكماليات المفرطة والصرف المبالغ فيه بعد إلغاء إقامة حفلات الزَّواج والمناسبات في القاعات؛ منعًا للتجمعات وتمَّت الكثير من المناسبات بيسرٍ وسهولهٍ وسعادة؛ حيث لم يشكل غياب تلك الحفلات عائقًا كبيرًا في منع إتمامها أو على الأقل الاستمتاع باللحظة، عندها فقط تأكدنا أنَّ البذخ والهدر والإسراف على الولائم والمناسبات ليس شرطًا أساسيًا لترحيل اللحظات الجميلة في حياتنا وحرماننا من لاستمتاع بها، بالعكس أصبحت فترة الحجر بمثابة عودة البساطة وعدم التكلف لحياتنا بطريقه بعيده عن الانتقاد والرسمية..
ومن الناحية المادية ادَّخر الكثير من الأسر المال فأصبح الصرف ينصب على أمور أكثر منطقية وأجدى نفعًا، الكثير منَّا قدّر قيمة الأسرة وعظمة دور كلّ فرد فيها وأهمية توثيق روابطها، فأصبح هناك وقت كافٍ للحوار والنقاش، وإن صحَّ القول تمَّ إعادة اكتشاف شخصياتهم حيث خرجوا بحقيقة واضحة أنه لا أمان ولا ملاذ إلا بدفء العائلة، وأنَّ قربهم يسدّ كل ثغور الحياة، حيث تستقيم حياة الفرد باحتواء آلام وحضور الأب، وحنان الأخت، وسند الأخ...
في المجمل كانت هناك رسائل اعتذارات كثيرة كنّا نرسلها يوميًا لذواتنا أولًا، ولمن أحببنا ثانيًا، وباقات امتنان كنّا نودّ أن نقدّمها لعالم مليء بالنعم رحل عنا في غفلة الحياة، والآن نقف وقفة كلها أمل ورجاء وحسن ظنّ بالله بحياة جديدة كلها تقدير وحب وشكر وامتنان .