من نعم الله عليَّ أنني تعرفت على "شلة الأربعاء" في مرحلة متقدمة من حياتي. أما "شلة الأربعاء"، فما هي؟ ومتى؟ وكيف تكوَّنت؟!
فإليكم الحكاية:
في عام 1403هـ - على ما أعتقد - زرت بريدة عندما كنت أستقر وأدرس في معهد جدة العلمي. في تلك الفترة، أخذني أحد أقربائي إلى "شلة" في منطقة الطرفية التي تبعد تقريبًا ثلاثين كيلومترًا عن بريدة. قال لي: "أريد أن أعرّفك على شلتي". كانت هذه الشلة تجتمع كل أربعاء، وهم في أوصافهم يطابقون شلة "الحرافيش" التي تحدث عنها نجيب محفوظ؛ إذ يجتمعون في استراحة معينة كل أربعاء، يتمازحون فيها، ويرفعون الكلفة، ويُقدّمون الطبخ الشهي واللهو المباح البريء!
سُمّيت "شلة الأربعاء" بهذا الاسم لأنهم كانوا يجتمعون كل أربعاء، عندما كان الأربعاء آخر أيام الدوام. وهم يتجاوزون العشرة أشخاص. والغريب أن كل واحد منهم كان مستقلًا لا يشبه الآخر، وهم على النحو التالي:
أولًا: أبو زياد
رجل يأتي متأبطًا الصحف، حاملاً إياها، يقرؤها ثم يرميها لمن حوله ليقرؤوها. يدخل أبو زياد الاستراحة مُسلِّمًا ومُهلِّلًا وضاحكًا، ويتجه إلى غرفة في آخر الاستراحة، حيث يخلع ملابس الدوام ويلبس ما يُسمّى بـ"ثوب الاستراحة"، وهو ثوب مهترئ لا تكاد تعرف لونه بسبب عبور تيارات الزمن عليه!
يميل أبو زياد إلى الثقافة والصحافة، ويرى نفسه أعلم من في الاستراحة. يحرص على متابعة المسلسلات، ويتحدث في شؤون كثيرة. ويُحسب له أنه كان أرفع منسوبي الاستراحة تعليمًا ومنصبًا، لذلك يخدم الجميع. من أبرز صفاته أنه خط الدفاع الأول عن مدينة بريدة؛ فلا يُكتب شيء عنها إلا ويقرأه، ثم إما أن يؤيده، أو يسكت عنه، أو يرد عليه.
ثانيًا: أبو براك
رجل أنيق، مهذب، يفكر كثيرًا قبل أن يتكلم. يعمل في إدارة حكومية تتطلب الصمت أكثر مما تتطلب الكلام. طويل، خلوق، يتميز بنظارته المقعّرة التي تكشف عن سواد عينيه. كان مدرسة في الحديث ومعرفة الأنظمة، يلجأ إليه الجميع إذا واجهتهم صعوبة.
رجل حكيم، يمسك العصا من الوسط، محب للحياة، لا يُرى إلا مبتسمًا. بإذن الله، سيدخل الجنة بابتسامته التي يوزّعها على من يعرفهم ومن لا يعرفهم.
ثالثًا: يوسف
شاب ذكي، بهيّ الطلعة، أنفق نصف عمره في دراسة الكتب الشرعية، والنصف الآخر يقضيه في تساؤلات حول ما درسه. يأتي إلى الاستراحة وهو يعلم أنه أكثر الشلة قراءة واطلاعًا. أما سبب مجيئه فهو التوازن، كما كان نجيب محفوظ يجد التوازن في شلة "الحرافيش".
رابعًا: حمد
هو العمود الفقري للشلة، المنسق والمرتب. يمتاز بالهدوء وجمال المنظر، وبالذات عيناه اللتان تأسران كل من يتحدث إليه. رجل أنيق، حتى وهو يجلس مع الشلة، يحرص على اللبس المرتب الذي يتماشى مع الذوق العام، لا ينشغل بالسياسة ولا بالثقافة، لكنه يعشق نادي الرائد، ويختص باختيار الطعام الجيد والمقاضي.
غالبًا ما يدخل في صراعات مع أبو سلطان لأن حمد يبحث عن الأكل الجيد والطعام الزكي كما ورد في القرآن، بينما أبو سلطان يبحث عن الأشياء التي تسد الحاجة دون النظر إلى قيمتها الغذائية أو جودتها.. وكان الله في عون حمد فهو يخوض معركة "القطة" في كل أسبوع عندما يأتي وقت الدفع، فهذا يماطل وذاك يعتذر وثالث يقول: أرجوك أمهلني إلى الأسبوع القادم.. وهكذا يجد حمد نفسه في مواجهة المعركة وحيداً إلا من عون الله والصبر الذي يمتلئ به.
خامساً: عزيّز
عزيّز اسمه "عبدالعزيز"، لكن على الطريقة النجدية. تم تصغير اسمه إلى "عزيّز " بتشديد الياء. عزيّز رجل وازعه الديني قوي لذا هو قليل الحديث، لا يتكلم إلا إذا رأى مجالاً للكلام، أنيق وهو أكثر أعضاء الشلة استماعاً واحتراماً لآداب الحديث، لا يتحدث إلا إذا رأى منكراً واضحا، أو إذا كان الحديث يدور حول حركة نقل المعلمين لأنه معلم عريق.
من أبرز مزاياه أنفه القوي حيث يشم الروائح بحساسية عالية.. وعلى ما أذكر أنه طلب النقل من مدرسة إلى أخرى بسبب أن المدرسة التي يعمل فيها كان بعض مدرسيها لا يهتمون بروائحهم.
سادساً: علي
علي وفي رواية أبو يزيد رجل خلوق يحب الحياة واللهم واللعب.. لكن ضوابطه الشرعية تُملي عليه أن يفعل فقط الأشياء الجيدة والمثمرة، علي صادق في تعامله فهو يعرف الذي عليه والذي له، يحب بشكل كبير نادي الرائد، في دواخله بعض من تجارب الماضي التي قد تقيد انطلاقته في الحاضر، يحب المعلومة ويبحث عنها أينما كانت.
سابعاً: عمر
عمر وفي رواية أبو يزيد أيضاً قريب من الشلة كلها إلا أنه أحياناً يختلس ببعض أفرادها من أمثال: علي أو فهد ويكوّن شلة ثنائية مع من يحب أحياناً، إلا أنه ملتزم بطلعة الأربعاء، مشكلة عمر الوحيدة أنه يعيش صراع مع أبو سلطان، بينما أبو سلطان مشغول في دنياه ومحطات الديزل التي يديرها!
عمر تتنازعه الصحوة مرة والانفتاح مرة أخرى، فإذا جلس مع منفتحين انشرح صدره إليهم وإذا ذهب إلى "المريدسية " ذكّروه بالآخرة وبماضيه الجميل وباستقراره النفسي فحنَّ إلى نفوذ المريدسية. عمر محب للحياة وطيب القلب إلا أنه سريع الغضب، يُحسب له أنه محب للرائد محب للسفر محب للحياة ومحب لإدخال السرور على أسرته طوال الوقت .
ثامناً: فهد..
فهد هو أقرب واحد من الشلة إلى قلبي لأنه قريبي تعلمت منه الكثير. رجل يمتاز بالحكمة والهدوء وحب الحياة والاستمتاع بكل ملذاتها المباحة..
فهد مدرسة لمن يعرفه، كان سابق عصره وسابق جيله، كان دائماً وهو في عُمر الثلاثين لا يصاحب إلا من كانوا في الأربعين والخمسين لكي يستفيد منهم، كان مفكراً عبقرياً وإذا تحدث إليه يوسف كنا نرى في أعين يوسف تلك التساؤلات التي تقول: لماذا أنا أقرأ أكثر من فهد وفهد لا يقرأ تقريباً.
فهد كان علامة استفهام كبيرة في الشلة؛ لأنه كان يفكر خارج الصندوق ويتوقع المستقبل، ويبدو أن فهد كان من الـمدمنين على سماع محاضرات الشيخ الشعراوي؛ لذلك كان الشعراوي يغذيه بالتفكير الحُر والتأمل خارج الصندوق "البريداوي "1.
تاسعاً: أبو أحمد
توفي _رحمه الله _، أبو أحمد هذا كان المثال الجيد في الاستراحة على العطاء وحب الحياة ومساعدة الناس وأيضاً هو سلس هيّن ليّن لا يعارض في شي بل هو مع الأكثرية، في حين أن أبا سلطان كان كثير الجدل وقائد حزب المعارضة، فإذا قالوا نتجه شرقا، قال: بل نريد الغرب.. وإذا قالوا نشتري لحماً؛ قال: لا، الدجاج أفضل… وهكذا يدخل في معركة مخالفة مع أي اقتراح يُطرح.
عاشراً: عيسى
عيسى رجل أنيق ومؤدب وهادئ، لا تراه أبداً في حالة انفعال أو غضب.. يعمل معلما ويفكر في تطوير نفسه، فجأة دخل في عالم التجارة واكتسح الناس وبدأت الأرباح - ماشاءالله تبارك الله - تنهال عليه.
بدأ يوزع نشاطاته بعد خروجه من المدرسة على المطاعم والعقار فنجح في ذلك كله.. يحب أن يستمع خاصة إذا كان الجدال يدور حول البشر ونشأة أبينا آدم، ونشأة التجمعات البشرية في العالم، يحب الاستماع لأنه يعرف أن الكلام الذي لا يثمر ولا يجلب مالاً لا فائدة منه ؛ لذلك يصمت كثيراً ويتحدث قليلاً .
أحد عشر: إبراهيم
إبراهيم الأخ الأكبر لعيسى؛ لكنه مختلف عنه تماماً، كثير الجدل قليل الصمت، نشأ تاجراً وعاش تاجراً، انتقل في مرحلة من حياته إلى الرياض وأصبح عندما يعود من الرياض مساء الأربعاء يرى نفسه بأنه يعلم أشياء لا يعلمها "حرافيش الشلة البسطاء"؛ لذلك كان يتحدث إليهم بأستاذية تلمحها خلال حديثه الذي تغير بعد أن تديّر الرياض.. إبراهيم رجل طيب القلب كبقية أعضاء الشلة الحرافيش، إلا أنه كثير التواصل مع الناس واجتماعي بدرجة ممتازة.
الثاني عشر: بَرِكَة
بَرِكَة له من اسمه نصيب فهو بركة، محب للحياة ولعله أفضل الحرافيش في مجال الرياضة ولعب كرة القدم وكان نجما من نجوم نادي الرائد، صاحب عقل متّقد اتفق مع فهد في إنشاء بعض المشاريع التي تخص البيئة.
كان بركة إذا حضر يفرح الكل بقدومه؛ لأنه كان يحضر مرة ويغيب شهراً، إلا أنه شخص ودود محب للسلام، ولعله أكثر منسوبي الشلة بحثاً عن السلام الداخلي والصفاء النفسي.
حسناً ماذا بقي؟!!
بقي القول: ياقوم هذه شلة الأربعاء عرفتهم قبل أربعين سنة، فكانوا محطة مهمة من محطات حياتي، تعلمت منهم الكثير، كل منهم كان مدرسة بحد ذاته، كل منهم كان قوياً في جانب، وأنا أنهل من جانبه الذي كان قوياً فيه.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الشلة ثابتة صامدة في مواجهة الزمن؟!
الإجابة المريرة سأقولها بكلمة: لا!
فقد تفرقت الشلة إلى مجموعات وأحزاب؛ والسبب أن الأفكار قد تغيرت، والاهتمامات قد تبدلت، والأولويات قد تحولت.. وأصبح كل منهم يواجه معركة من معارك الحياة التي تتطلب منه الحضور والاهتمام والشعور؛ لذلك كتبت هذه الرسالة فقط من أجل أن تصل إليهم.
أكتبها بمحبة وأُغلفها بشكري، وأدين لهم بكثير من الفضل والمعرفة والوعي الذي أسقوني إياه، حيث كنت أصغرهم سنّاً وأكثرهم نشاطاً وأوفرهم غيابا في يوم الأربعاء؛ لأنني لأسكن في مدينة بريدة!