لم تكتفِ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي منتصف القرن الماضي بتوريث العديد من الحروب والخراب في مختلف بلدان العالم، بل إنَّ مخلّفاتها تكاثرت وورّثت عشرات المناهج الفكرية والمصطلحات التي نَمَت نموًا موحشًا مُذ تلك الحقبة حتى يومنا هذا.
إحدى تلك المخلفات والتي يشتد ساعدها كلّما كبر عمرها هي- المَكارثية- والتي نشأت على يد السيناتور الأمريكي (جوزيف مكارثي)، بعد أن رفع السيناتور سَبّابة يده المُتَّهِمة تجاه صدور مئات العاملين داخل البيت الحكومي الأمريكي، متهمًا إياهم بالتعاطف مع الفكرة الشيوعية، بل حتى بالتجسس لصالح السوفييت متسلّحًا بدليل ركيك عنوانه صمتُ هؤلاء العاملين وتجنّبهم الهجوم اللفظي تجاه الخصم السوفييتي!
نَمَا هذا المصطلح ليشمل جُل فئات الشعب الأمريكي، بما فيهم العامّي قبل المثقف، فكل من لزِم الصمت ولم يُدين الشيوعية والسوفييت علنًا، اتّهمه "جوزيف" بالخيانة والتعاطف مع العدو، بل إنه وصل مرحلة استدعاء السلطة والمطالبة بمحاكمة كل من اختار الصمت بدلًا من الهجوم على الغريم!
نضج المصطلح جسدًا وتهاوى فكرًا، بعد أن أصبحت - المكارثية - مصطلحًا عالميًا يُطلق على جل الحالات التي يُفسَّر بها الصمت على إنه "خيانة"، لِتُلَزم الأقلام على السيل بما يوافق هوى - المكارثي - وإلّا فإن القلم وصاحبه حليفان للشيطان، وتُرغَم التغريدات على أن تُصاغ بديباجة المكارثي، وإلا فإن كاتبها والخيانة وجهان لعملة واحدة، وتُكرَه الحناجِر على الغناء بذات النوتة الموسيقية التي تُطرِب أذن المكارثي، وإلا فهي حناجر مُباحة لشفرة السكّين!
هذا الإرهاب المبثوث في قلوب الشاذّين عن المكارثية، لا يُمكن إلا أن يورث الصدع الفكري والبكم المُزمِن، أما عن شقاء الحكومات في بتر أطرافه فلا يضاهيه شقاء، فهو وباء لا سبيل للسيطرة عليه إلا بتسفيه وتجاهل مُمارِسُه لتخمد حِمم فساده من فوهة بركانها!
إن كان هناك عزاء وحيد للمكارثية، فإن نهاية مسيرة صانعها - جوزيف - في الولايات المتحدة لم تكن سعيدة، بعد أن شبع الناس هناك من غوغائيته وتشجيعه على صرف الاتهامات وتجريم الشخوص دون حقائق مثبتة، لتدور به الأيام حتى سيق إلى المحاكم بتهمة الفساد، وينتهي بذلك - جوزيف مكارثي - وتبقى بعده المكارثية متمدِّدة!