تبنت المخابرات الأمريكية منذ تأسيسها عام 1947 سياسة الاغتيالات والتخلص من أعداء أمريكا في الخارج، فقد اغتالت رئيس سيلان عام 1959، ورئيس وزراء الكونغو عام 1961، ورئيس وزراء البرازيل عام 1964، ورئيس موزمبيق عام 1969، ورئيس تشيلي عام 1973، ورئيس بنجلاديش عام 1975، وحاولت اغتيال الرئيس الكوبي كاسترو ثلاثين مرة على الأقل. ورغم أنها تدّعي تخلّيها عن سياسة الاغتيالات منذ الثمانينيات، فإن دورها الواضح في اغتيال بن لادن والزرقاوي وقاسم سليماني يكذّب بكل بساطة هذا الادعاء.
الحقيقة هي أن المخابرات الأمريكية لم تكتف فقط بعمليات الاغتيال ضد أعدائها في الخارج، بل وضعت منهجا يتم تدريسه للعملاء المتخصصين في عمليات الغدر والاغتيال.
والفكرة بدأت بكتيّب صغير يُدعى "دليل الاغتيالات"، حيث اعتمدت عليه المخابرات الأمريكية فترة طويلة قبل أن يتم تهريبه لاحقا إلى إسرائيل، وهذا الكتيّب وضعه عام 1951 طبيب شرعي يُدعى سيدني جوتـليب لصالح المخابرات الأمريكية، ويتضمن إرشادات "جهنمية" لتنفيذ عمليات الاغتيال دون ترك أثـر. وهذا الدليل يُدعى ــ بين أصحاب المهنة ــ بالإنجيل العظيم كونه يتضمن قواعد أساسية لايمكن تجاهلها في أي عملية اغتيال سياسية ناجحة.
ويعترف الخبراء بأن النجاحات التي حققتها إسرائيل في اغتيال كوادر فتح في السبعينيات والثمانينيات، وحماس والقسام من التسعينيات إلى الآن، تعود في جزء كبير منها إلى كتيّب الدكتور جوتليب. وكان رئيس الوزراء السابق إسحاق شامير مسؤولًا عن فرع الاغتيال في الموساد، واعترف أن مبادئ الكتاب أتاحت له تنفيذ مائة عملية اغتيال ناجحة ضد أعضاء فتح وأيلول الأسود، الجماعة المسؤولة عن قتل الفريق الرياضي الإسرائيلي في أولمبياد ميونخ.
أما الكتيّب بحدّ ذاته فلا يتجاوز حجمه ثمانين صفحة. ويـبدأ تعريف مفهوم الاغتيال وتاريخه السياسي، وكيف أن زعيم الحشاشين حسن الصباح أول من تبناه للتخلص من خصومه السياسيين زمن الحروب الصليبية، كذلك يشير جوتليب في مقدمة الكتيّب إلى أن أوامر الاغتيال يجب أن (تبلّغ شفهيًّا) ويتم حصرها بين شخصين أو ثلاثة بعيدًا عن رئيس الدولة (منعًا للإحراج). كما يقدّم إرشادات كثيرة لتنفيذ عملية الأغتيال وإظهارها كحادثة انتحار أو موت طبيعي؛ حيث يمكن مثلا إغراق الضحية ثم رميها فورا في المسبح، أو تعطيل مكابح سيارته في طريق جبلي، أو إلقائه من مكان مرتفع على أرضية صلبة (لا يقل ارتفاعها عن 75 قدما لضمان وفاته)، كذلك ينصح الدكتور جوتليب بالاستفادة من العادات السيئة للضحية لإظهار حادث الوفاة بصورة طبيعية؛ فإن كان يتعاطى الكحول بكثرة فيستحسن ترك زجاجة فارغة بقرب حطام السيارة أو بين الأثاث المحروق، وإن كان زير نساء فيمكن حقنه بجراثيم جنسية قاتلة أو تصويره مع إحدى العاهرات للإيحاء بمسؤوليتها عن قتله لاحقًا.
أضف إلى هذا أن خبرة الدكتور جوتليب في التفاعلات الكيميائية أتاحت تقديم نصائح فريدة في هذا المجال (مثل حقن الضحية بمادة المورفين بعـد تناول الخمر كي تظهر الوفاة كصدمة كحولية حادة)، كما ساهم في تركيب ثمانين نوعًا من السموم التي تتفاعل لاحقًا مع كرات الدم الحمراء. وبطلب خاص تم ابتكار سيجار سام (تم إعداده خصيصًا لكاسترو) يتفاعل مع الجسم فور ملامسة الشفاه أو إشعاله من قـبل المدخن.
وأخيرًا، يتضمن الكتيّب نصائح لـتحقيق أقصى فائدة سياسية من عملية الاغتيال ذاتها؛ فهل من مصلحة الدولة مثلًا إبقاء عملية الاغتيال سرية (كما اغتالت إسرائيل إمبراطور الصحافة ماكسويل وأظهرته كحادث غرق طبيعي)، أم من مصلحتها الاعتراف بعملية الاغتيال كي تبعث رسالة قوية إلى الدول والمنظمات المعنية (كما فعلت أمريكا بقتل بن لادن وقاسم سليماني، وإسرائيل في اغتيال الرنتيسي وأحمد ياسين).