الأراء

بين وهم الاستمرارية ونهاية التاريخ

المستشار فرحان حسن

في لحظات التحول الكبرى يبحث العقل البشري عن الطمأنينة عبر افتراض أن ما اعتاده سيستمر وأن ما وصل إليه العالم يمثل الذروة النهائية لمساره هذا الميل النفسي يفسر كثيرا من أخطاء التقدير في السياسة والاقتصاد والإدارة ويقف خلف نظريتين فكريتين مؤثرتين هما وهم الإستمرارية Illusion of Continuity و وهم نهاية التاريخ The End of History Illusion.

تقوم نظرية وهم الإستمرارية Illusion of Continuity على افتراض ذهني غير واع مفاده أن الأنماط السائدة في الحاضر ستستمر في المستقبل بالوتيرة نفسها وبالمنطق ذاته الإنسان بطبيعته يربط الغد بالماضي القريب ويستخدمه مرجعاً للتنبؤ والتخطيط متناسيا أن التحولات الكبرى غالبا ما تأتي على شكل قفزات مفاجئة لا على مسارات مستقيمة.

يظهر هذا الوهم بوضوح في الأسواق المالية حين يعتقد المستثمر أن النمو سيستمر لأنه استمر في السنوات السابقة كما يظهر داخل المؤسسات حين تفترض الإدارات أن نماذج العمل الناجحة ستظل صالحة رغم تغير البيئة التقنية والتنظيمية وعلى المستوى الفردي يتجسد حين يظن الشخص أن مساره المهني آمن لمجرد أن ظروفه الحالية مستقرة.

تكمن خطورة Illusion of Continuity في أنها تعطل الاستعداد للتغيير فالاستمرارية الحقيقية في عالم متغير لا تعني الثبات بل تعني القدرة على التكيف وإعادة التشكيل.

أما نظرية نهاية اتاريخ  The End of History Illusion  فتقوم على الاعتقاد بأن البشرية وصلت إلى المرحلة النهائية من تطورها السياسي أو الاقتصادي أو الحضاري وأن ما بعد هذه المرحلة لن يكون سوى تحسينات شكلية لا تمس الجوهر هذا الوهم ارتبط في النقاشات الفكرية الحديثة بأطروحات المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما حول اكتمال النموذج السياسي السائد لكنه تحول في الوعي العام إلى قناعة نفسية بأن العالم استقر على صيغة أخيرة.

التاريخ يقدم أمثلة متكررة على خطورة The End of History Illusion فكل حضارة قوية ظنت أنها بلغت نهاية التطور وكل نظام اقتصادي تصور أنه الأكثر كفاءة إلى الأبد ثم جاءت أحداث غير متوقعة أعادت تشكيل المشهد من جديد.

العلاقة بين النظريتين  Illusion of Continuity وThe End of History Illusion وثيقة فالأول يفترض استمرار المسار والثاني يفترض اكتماله وكلاهما يقللان من شأن المفاجآت الكبرى ويضعفان الجاهزية الاستراتيجية في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية والاقتصادية والجيوسياسية.

أهم درس عملي تقدمه هاتان الفكرتان هو أن التخطيط الفعال لا يقوم على التنبؤ الدقيق بالمستقبل بل على بناء المرونة والقدرة على الاستجابة. المؤسسات الناجحة لا تسأل كيف نحافظ على ما نحن عليه بل كيف نعيد تعريف أنفسنا قبل أن يفرض الواقع ذلك.

التاريخ لم ينته والاستمرارية ليست مضمونة وما نعيشه اليوم ليس إلا مرحلة ضمن مسار أطول وأكثر تعقيدا . إدراك ذلك لا يقود إلى التشاؤم بل إلى نضج فكري واستراتيجي يجعل الأفراد والمؤسسات أكثر استعدادا للمستقبل.

مرر للأسفل للمزيد