كان للنُّخَب على مر العصور دور كبير في نهضة الحضارات وحتى في هدمها، دور يتمثّل في وضع اللبنة الأولى والأخيرة من بناء أي حضارة.
لا ينتهي دور النُّخَب في صناعة الحضارة فقط، بل عليها مهمة رسم صورة هذه الحضارة وتأريخ أحداثها وتدوين تفاصيلها حتى تُنقل للأجيال التي تتلوها حرفًا بحرف وصورة بصورة.
تكمن المشكلة في قدرة النّخب على صناعة حضارة من وهم، وإنجازات من ورق، مُستخدمة مساحيق تجمليلية منثورة على صور الدماء والجثث والخراب، لتستبدلها بصور ينابيع المياه وطوابير الورود والبنايات الراسخة، وما إن يستثبت القارئ الحذق حقيقة ما يقرأ من حضارة نَسَجَها نخبويّ عتيق، حتى يكتشف أنها ليست سوى حضارة من «وهم»!
هذه القدرة السحرية للنخبويّ على إضواء «المُعتَم» وتبييض «المُسوَد» جعلته مطلبًا أساسيًا للحاكم، وذراع يمنى له في عديد من الحضارات القديمة أو حتى المعاصرة؛ لتُصبح الخطوة الأولى للحاكم قبل بدء حُكمه هي كسب النخبة وضمّها في فريق السلطة قبل أي خطوة أخرى، قبل حتى تلبية أساسيات الحكم واحتياجات الأمّة المفصلية!
حينما تُصبح الكرة في ملعب النخبوي، يحتار في أمره، أيختار نعيم السلطة ليشبع صُرّته ذهبًا، ويُمسي بين أحضان الحرير ويُصبح على زخارف المنزل وتُحفه، أم أن يكون شعبويًّا تهتف ألسِنة الشعب اسمه، ويُعلّقوا على جدران بيوتهم صورته ويُصبح رمزهم المُحتَذَى به!
على ذات السياق، السياق الذي ينسب نهضة الأمة للنخبة حينما تتمسّك بمبادئها، وينسب سقوط ذات الأمة أيضًا للنخبة حينما تتخلّى عن تلك المبادئ، يذكر المفكر الجزائري مالك بن نبي قصة نهضة الشعب الجزائري الفكرية وتمكّن النُّخبة آنذاك من تحريك عجلة هذه النهضة وتمزيق ثياب الدروشة التي تزيّن بها عدد كبير من الشعب الجزائري، إلا إن عجلة النهضة تلك لم تُكمل سيرها بضعة أمتار حتى تفككت وتقَهقرت، بعد أن خُطِف النخبويون صُنَّاع هذه العجلة بإغراءات سياسية وسلطويّة في مؤتمر باريسي عام 1936، لتعود تلك النخبة برأسٍ مُنحنٍ بعد تنازلات كثيرة، ويعود معهم الزيّ الدرويشي المهترئ لمعانقة أجساد الشعب الجزائري!
يوصلنا هذا للإيمان بأن النخبة هي من تملك الخيط والمخيط في نهضة كل حضارة، متى ما كانت نخبة مستقلّة متحررة لا تُغريها مادّيات السلطة ولا هتافات الشعب، لا تخشى أقفال الزنازين ولا لهجوم العوام، متى تحققت هذه الشروط، كان للحضارة أن تنهض بحقيقة ملموسة لا بنصوص موهومة!