في عمق الصحراء، حيث الريح تهمس بأسرار الأجداد، تبرز «مقصورة الراجحي» شامخة، لا كتحفة معمارية فحسب بل كأغنية تراثية تحفظها الأرض عن ظهر قلب.
هنا، لا تزور مكانًا فحسب، بل تدخل في حوار خافت مع الماضي، حيث كل حجر يحكي، وكل نقش يهمس، وكل ظل يروي سيرة رجل وسلالة، إنها ليست مقصورة، بل ذاكرة متماسكة، تنبض بالحياة في قلب البكيرية منذ أكثر من قرنين.
فالمقصورة التي شيدت عام 1190هـ على يد ناصر الراجحي، بعد أن شد الرحال من الهلالية، فغرس في أرض القصيم أولى لبنات الاستقرار، لم تكن مجرد مأوى، بل حصنًا يجمع بين عبقرية العمارة النجدية وروح المقاومة اليومية في وجه الطبيعة والزمان.
الحداير، الفتحات الصغيرة، الجدران العالية، كل تفصيل معماري فيها هو شاهد على حكاية عائلة، وملامح مرحلة، وصدى حضارة.
وفي عمقها، يلمع «مجلس القهوة» كشاهد على الكرم النجدي، حيث كان الضيف لا يُستقبل بل يُحتفى به، تعلّق الوصايا القديمة على الجدران كأنها دساتير غير مكتوبة، وتشتعل الفوانيس لتضيء ذاكرة النقاشات والمشورات التي طالما جمعت الجد وأبناءه وأعيان البلدة.
وفي كل ركن، تشعر أن المكان لا يزال حيًّا، كما لو أن الزمن لم يغادره قط.
مسجد، وبئر، وسواني، مشاهد تتناغم مع إيقاع الحياة التي نبضت في المكان؛ فالمئذنة ترشد العابرين، و«القليب» يروي ظمأ الأرض والقلوب.
أما المقصورة نفسها، فقد ظلت رغم تحوّلات العصر، كتلة صامدة من الزمن الجميل، تروي للأجيال القادمة قصة تأسيس، ومعمار مقاوم، وهوية لا تهتز، إنها فصلٌ من تاريخ القصيم لكن بلغة الطين والظل، لا بالحبر والورق.
ونظرًا لمكانتها التي تمثل الجذور والهوية والرسالة، أجرت صحيفة «عاجل» حوارًا مع المشرف على المقصورة يوسف بن عبدالرحمن الراجحي، الذي يحمل على عاتقه مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث، وتنفيذ وصايا الأجداد، وتعريف الأجيال القادمة بما قدّمه السابقون من جهد وتضحيات.
تعود نشأة المقصورة إلى عام 1190هـ، حين استقر الجد ناصر بن راجح بن حمد في البكيرية، بعد أن مر بعدة محطات في عنيزة، والخبراء، والهلالية، عمل هناك بالتجارة والزراعة، ثم استقر في البكيرية التي كانت في طور التأسيس.
وكانت المقصورة أول ما بناه، بعد أن حفر البئر، لتكون منزلاً وسكناً وحصناً له ولعائلته، وشاهداً على بداية حياة جديدة في هذه الأرض.
المقصورة في السياق النجدي تعني البناء الحصين المرتفع، وقد كانت كذلك، فهي بنيت بأسلوب دفاعي ومعماري في آن واحد، بجدران سميكة وأبراج، ومنافذ للرؤية والحماية. كانت تمثل في ذلك الوقت حصنا عائليا ومركزا اجتماعيا، ولهذا عُرفت بـ«مقصورة الراجحي».
المقصورة مبنى ضخم من طابقين، يتميز بجدران سميكة تبلغ حوالي مترين عرضًا، وقد صُمم ليكون حصنًا للعائلة في أوقات الأزمات، في الطابق الأرضي يسكن الرجال، وفي العلوي النساء، وفي السطح مواقع رماية تُعرف بـ«المرامي»، كما تضم المقصورة غرفتين كبيرتين تُعرفان بـ«الجصّتين» لحفظ التمور، باستخدام طرق تقليدية تشمل الماء والملح والحجارة لاستخلاص الدبس.
توجد -كذلك- غرفة تُسمى «غرفة الأرزاق»، وتضم حوضين كبيرين لحفظ القمح، يُغطى بسعف النخل والطين لحمايته من التسوس.
وتتكون المقصورة من دورين: الدور الأول للضيافة والمخازن، والثاني للسكن، بجوارها المسجد، والبئر (القليب)، والسواني، ومجلس القهوة، أما المجلس فهو القلب النابض للمكان، حيث تُتداول الأخبار وتُصنع القرارات، وحيث الضيافة النجدية الأصيلة، ومن ميزاته وجود الوجار، والسماوة (فتحة السقف)، والكمّار، وهي عناصر معمارية مخصصة للراحة والضيافة وصناعة القهوة.
العمارة هنا متجذرة في بيئة نجد. استخدم فيها الطين واللبن، وروعي فيها أساليب التبريد والعزل مثل الفتحات الصغيرة، والحداير (المثلثات المقلوبة) التي تحمي من الأمطار وتُزيّن الواجهات.
وعكست الجدران العالية وفتحات المراقبة روح العمارة الحربية، فيما دلّت باقي التفاصيل على وعي ثقافي واجتماعي واقتصادي متكامل.
المسجد، الذي يستقبل الزائر بمنارته النجدية الشامخة، كان مركز العبادة والسكينة، فهو بُني بطراز يجمع بين الوظيفة والجمال. ويتكون من ثلاثة أقسام:
• «الحوش الخارجي».. كان مخصصًا لصلاة المغرب والعشاء والفجر صيفًا.• «الليوان».. وتُؤدى فيه صلوات الظهر والعصر.• «الخلوة».. تُستخدم في الشتاء.
كما توجد غرفة صغيرة أسفل الدرج تُعرف بـ«غرفة المعتكفين»، خُصصت للاعتكاف في رمضان.
أما البئر التي اعتبرت من أضخم الآبار في المنطقة -آنذاك-، فكانت أول ما حفرها الجد ناصر، وكانت تسقى منها النخيل، مما جعل المقصورة مركزًا حيويًا لا مجرد مسكن.
حُفرت البئر يدويًا دون معدات، في وقت لم تكن فيه سوى الإبل وسيلة لاستخراج الماء، وتُعد هذه البئر ثاني أكبر بئر في الجزيرة العربية بعد بئر هداج بتيماء، وكانت تُستخدم فيها 11 «غروبًا» — أي بعيرًا — 7 من الجهة الشمالية و4 من الجنوبية، إضافة إلى «منحات» مخصصة لسير الإبل خلال عملية السني.
نعم، بالفعل هناك سرداب يُعرف بـ«الدباب» يصل بين البئر والمقصورة، وكان يُستخدم في أوقات الخوف لنقل الماء من البئر إلى داخل المقصورة، حيث تتحصن العائلة.
المقصورة اليوم ليست مجرد مبنى، بل إنها مركز فعال للحراك المجتمعي والوطني، احتضن المناسبات، واحتفظ بالوثائق، واستقبل الزوّار والعلماء، وكان موئلًا لأفراد العائلة وقت الخوف أو الحروب.
تُقام فيها اليوم فعاليات بالمناسبات الوطنية والأعياد، وتُفتح يوميًا للضيافة وتبادل الأحاديث بين الزوار، كما يجتمع أفراد العائلة في المقصورة نهاية كل شهر.
وخلال شهر رمضان، نُنفذ وصايا الأجداد من خلال تقديم إفطار صائم يوميًا، كذلك استضافت المقصورة حملات للتبرع بالدم، وبرامج مجتمعية مثل «هيا نمشي»، بالإضافة إلى استقبال طلاب المدارس لتعريفهم بتاريخ المنطقة.
ليس هذا فحسب، بل إن مجلس القهوة شهد نقاشات ومشورات أثّرت في مجتمع البكيرية، وهذا ما رفع المقصورة من مجرد مسكن إلى معلم وطني.
حظيت المقصورة بزيارات رسمية رفيعة، بينها زيارة لسمو أمير منطقة القصيم، وعدد من الأمراء والأميرات، ووزراء وسفراء وشخصيات عامة من داخل المملكة وخارجها، وهي محل اهتمام واسع على المستويين المحلي والدولي.
نعتبر المقصورة عنصرًا سياحيًا فاعلًا، ونحرص على رفع عدد زوارها من داخل المملكة وخارجها، تحقيقًا لرؤية المملكة 2030 التي تُولي السياحة والتراث أهمية خاصة.
وعمدنا إلى جعل الدخول إلى المقصورة بشكل مجاني، لأننا لا نسعى للربح، بل نهدف إلى نشر الوعي بتاريخ القصيم وتاريخ المملكة عمومًا.
المقصورة تمثل الذاكرة والهوية والانتماء، منها انطلقت عائلة الراجحي إلى مختلف أرجاء المملكة، وقد أنجبت مشايخ مثل الشيخ عبدالعزيز الراجحي، وقضاة وتجارًا ورجال دولة، ونحن اليوم نحمل مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث، وتنفيذ وصايا الآباء والأجداد، وتعريف الأجيال القادمة بجهود وتضحيات من سبقونا.
نعم، بتكاتف من الأسرة، خصوصًا بجهود العم سليمان بن عبدالعزيز الراجحي، تم التنازل عن جزء منها للأوقاف الخيرية، تُفتح أبواب المقصورة للزوار، وتقام فيها موائد إفطار رمضانية، وتُستقبل فيها العائلات، هي الآن ليست فقط ملكًا للعائلة، بل إرث مفتوح للمجتمع.
بقيت تعاليم الأجداد، ووصايا الآباء، معلّقة على الجدران، نقرؤها ونستذكر بها قيم الكرم والمروءة، الفوانيس، الدلال، الأرائك اليدوية، كلها تنطق بذاكرة لا تشيخ.
ومع كل تجديد أو ترميم نقوم به، نحاول الحفاظ على تلك الروح التي سكبتها يد الجد ناصر في الطين.
رسالتنا أن الطين قد يكون أحيانًا أبلغ من الحجر، وأن الأصالة لا تُقاس بالزخرفة، بل بالثبات، وأن هذا المكان بما يحويه من بساطة، يحمل بين جدرانه سيرة كفاح وحياة، ويستحق أن يكون شاهدًا حيًّا على ذاكرة المكان والإنسان.