
جسّد الشاعر الجاهلي ميمون بن قيس، المعروف بـ "الأعشى الكبير"، صورة الشاعر المتنقّل بصوته وكلمته، الذي أهدى الشعر العربي نضجه المبكر، وبصيرته المتفرّدة، وملامحه الغنائية التي تماهت مع الحكمة والوصف والغزل.
وُلد الأعشى في بلدة منفوحة -جنوب مدينة الرياض حاليًا- تقريبًا عام 570م، ونشأ في بيئة لغوية وثقافية غنية، تأثّر فيها بخاله الشاعر المسيّب بن علس، قبل أن يبدأ رحلاته إلى الحيرة واليمن والشام والبحرين، بحثًا عن المجد الأدبي.
ولقّب بـ "الأعشى" لضعف بصره، لكنه أبصر ببصيرته الشعرية ما عجزت عنه العيون، فكان شعره جزلًا سهلًا ممتنعًا، واضح المعنى، يجمع بين الغنائية الرقيقة، والواقعية الحيّة، وبلغ به تأثيره أن لقّبه العرب بـ "صنّاجة العرب" لعذوبة صوته حين ينشد شعره.
ومن أشهر أبياته التي تداولها الرواة:
ودّعْ هريرةَ إنّ الركبَ مرتحلُ
وهلْ تُطيقُ وداعًا أيّها الرجلُ
وقد روى كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني و"الشعراء" لابن قتيبة قصة الأعشى مع الملك النعمان بن المنذر، حين قصد بلاطه مادحًا فقال:
أرقتُ وما هذا السُهادُ المؤرِّقُ
وما بيَ من سُقمٍ وما بيَ معشَقُ
ولكن عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ
إذا عوى وصوتُ إنسانٍ ففارَقُ
فأُعجب النعمان بشعره وأكرمه، لتتكرّس بذلك صورة الأعشى شاعرًا للملوك، وعده النقّاد من طبقة فحول الشعراء الجاهليين، إلى جانب "امرئ القيس، وزهير، والنابغة"، وهو من أشعر شعراء عصره.
وخلدت مؤلفات التراث ديوانه في كتب مثل "الأغاني"، و"العقد الفريد"، و"طبقات فحول الشعراء".
ويُورد "ديوان الأعشى الكبير"، في تحقيق الدكتور محمد حسين، نماذج من شعره حين تقدّم به السن، وامتاز شعره بالطابع القصصي، وصياغته التي اتّخذت في كثير من الأحيان طابع الحوار، بأسلوب لا يكاد يُضاهيه فيه إلا امرؤ القيس، جامعًا بين البنية السردية، والعاطفة الصادقة.
وشكلت شخصية الأعشى إحدى العلامات الراسخة في وجدان الثقافة العربية، وقد أعادت وزارة الثقافة إحياء إرثه، بتنظيم فعاليات ثقافية في حي منفوحة التاريخي بالرياض، شملت قراءات شعرية، وعروضًا فنية، وندوات أدبية، ضمن جهودها في إبراز الرموز الثقافية الوطنية، في إطار مستهدفات رؤية المملكة 2030.
وسيظل الأعشى، ابن منفوحة، رمزًا شعريًا خالدًا، لم تحجبه عيناه عن رؤية الجمال، فبصيرته كانت مرآة عصره، وكلماته ستبقى مصدر إلهام للشعراء والدارسين، بما فيها من جزالة وبلاغة، وعمق إنساني صادق.