تستند المملكة العربية السعودية في جهودها لحماية البيئة ومكافحة التغير المناخي على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاجتماعي، دافعها في المقام الأول الواجب الديني والوطني والإنساني والمسؤولية أمام الأجيال القادمة، ولذلك وازنت بين صون البيئة والتنمية المستدامة ضمن مستهدفات رؤيتها المستقبلية 2030.
وعلى قدر اهتمام المملكة بشؤون بيئتها محلياً، أدركت منذ وقت مبكر واجبها الإنساني تجاه المخاطر المحدقة بكوكب الأرض بيئياً ومناخياً، واستشعار ضرورة الوصول إلى حلول ناجعة تُغلب فيه مقومات الحياة واستدامتها، ومن هذا المنطلق تشاطر المملكة دول العالم فيما تواجهه من تحديات بيئية متنامية نتيجة للتزايد السكاني وتسارع الوتيرة الصناعية والاقتصادية والعمرانية والزراعية، فسعت جاهدة إلى الحد من مسببات التغير المناخي، والوفاء بالتزامها بالمعايير والاتفاقيات الدولية في إطار البرامج الدولية المنبثقة عن المنظمات المتخصصة، ومنها اتفاق باريس للتغير المناخي الرامية لتجنب التدخلات الخطيرة الناشئة عن أنشطة بشرية في النظام المناخي.
مبادرة السعودية الخضراء
وأمام هذه التحديات العالمية، أعلن صاحب السمو الملكي، الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، عن مبادرة "السعودية الخضراء" في نهاية العام الماضي، لتحقيق الاستدامة البيئية، وتشمل جهود المملكة في هذا المجال تعهدات بتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060م، وزيادة حصة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء إلى 50% بحلول عام 2030م، وخفض انبعاثات الميثان بنسبة 30% بحلول العام نفسه، تماشياً مع التعهد العالمي بشأن الميثان.
وتتضمن مبادرة "السعودية الخضراء" ثلاثة أهداف وطنية طموحة، هي: زيادة المناطق المحمية البرية والبحرية لتعزيز التنوع الأحيائي، وتقليل الانبعاثات الكربونية بأكثر من 278 مليون طن سنوياً بحلول عام 2030م، وتشجير المملكة من خلال زراعة 10 مليارات شجرة، وتقدّر تكلفة الحزمة الأولى من المبادرات، التي تزيد على 60 مبادرة فرعية ضمن مبادرة "السعودية الخضراء"، بحوالي 700 مليار ريال، لتُسهم بذلك في نمو الاقتصاد الأخضر، وطنياً وإقليمياً وعالمياً.
مبادرة الشرق الأوسط الأخضر
وإيماناً بدورها الإقليمي، وحاجة العالم الماسة إلى التحرك نحو بناء مستقبل أخضر، أعلنت المملكة في نفس التوقيت عن مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" بوصفها عاملاً محفزاً للتأثير العالمي، ونموذجاً ناجحاً للتعاون الدولي في العمل المناخي على نطاق واسع، إذ تستهدف زراعة 50 مليار شجرة، واستصلاح 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، ودعم الحد من الانبعاثات، في المنطقة، التي تعادل 670 مليون طن سنوياً. ولتفعيل هذه المبادرة استضافت المملكة في شهر أكتوبر من العام الماضي 2021 النسخة الافتتاحية لقمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وجمعت رؤساء دول ومسؤولين كباراً من أكثر من 30 دولة حول طاولة واحدة. وأعلنت المملكة عن انطلاق النسخة الثانية من قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر يوم 7 نوفمبر، ومنتدى مبادرة السعودية الخضراء 11 و12 نوفمبر في مدينة شرم الشيخ المصرية، تزامناً مع استضافة المدينة لمؤتمر (COP27)، الذي يجمع دول العالم تحت مظلة واحدة للارتقاء بالطموحات المناخية العالمية.
الاقتصاد الدائري للكربون
لم تتوقف جهود المملكة عند إطلاق المبادرات الخضراء فقط، بل تبنت أيضاً خلال رئاستها مجموعة العشرين مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، والذي تمت الموافقة عليه من مجموعة العشرين كإطار متكامل وشامل لمعالجة التحديات المترتبة على انبعاثات الغازات الدفيئة وإدارتها بشتى التقنيات المتاحة، ويمثل هذا النهج نظاماً مترابطاً متكاملاً ومستداماً لإدارة الكربون من خلال أربعة محاور: تخفيض الكربون، وإعادة استخدامه، وإعادة تدويره، والتخلص منه، كما أنه يشجع مبدأ الشمولية في استخدام التقنيات النظيفة بما فيها الطاقة المتجددة وتقنيات المواد الهيدروكربونية النظيفة.
وتتفق هذه الاستراتيجيات الأربع مع رؤية المملكة 2030 عبر برامجها الهادفة إلى تحقيق تحول اجتماعي ونمو أكثر استدامة اقتصادياً، بالمواءمة والعمل مع كافة القطاعات التنموية بالمملكة مثل الطاقة، والصناعة، والمياه، والزراعة، والسياحة، وغيرها من القطاعات. ولهذا أطلقت المملكة برنامج وطني يتمحور حول الاقتصاد الدائري للكربون، مبني على الجهود المبذولة بالفعل لتقليل آثار الكربون في كل مكان، بدءًا من إنتاج البترول إلى إدارة المدن وتشييد المنازل.
وتعمل المملكة على إعادة استخدام الانبعاثات الكربونية وإعادة تدويرها، عبر تحويلها إلى وقود صناعي، ومواد أولية صناعية، ومغذيات زراعية، ومواد كيميائية، وغير ذلك، وتشارك المملكة العالم خبرتها في هذا المجال من خلال مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر، متطلعة إلى التعاون مع دول العالم لنشر التقنيات ذات الصلة بالاقتصاد الدائري للكربون، من خلال الشراكات والمبادرات الدولية، مثل: المؤتمر الوزاري للطاقة النظيفة (CEM)،ومهمة الابتكار (MI)، ومنتدى القيادة لعزل الكربون (CSLF) ،لاسيما في مجال التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه(CCUS) ، والوقود النظيف، والهيدروجين النظيف، والالتقاط المباشر من الهواء (DAC).
وإيماناً منها بأهمية الالتزام بمبادئ الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي واتفاقية باريس، وضرورة تطوير وتنفيذ الاتفاقيات المناخية بالتركيز على الانبعاثات دون المصادر، تعهدت المملكة أيضاً بإنشاء منصة تعاونية لتسريع تنفيذ الاقتصاد الدائري للكربون، ومركز إقليمي لتغير المناخ، ومراكز إقليمية لاستخدام وتخزين الكربون، والإنذار المُبكر بالعواصف. يضاف إلى كل ما سبق من جهود، فإن المملكة رائدة العالم في إنتاج البترول بكثافة كربونية تعد من الأقل على مستوى العالم، وذلك بهدف تحقيق مستقبل طاقة مستدام للأجيال القادمة.
وتعمل المملكة، بالشراكة مع مجموعة العشرين، نحو تعزيز الطموحات الرامية إلى تحقيق تحولات طاقة تكون شاملة ومستدامة ونظيفة، وتعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، في الوقت الذي تضمن فيه أمن إمدادات الطاقة، واستقرارها، والوصول إليها بتكلفة ميسورة، والقضاء على فقر الطاقة.
الطاقة المتجددة
ترى المملكة في التمويل الأخضر والاستثمارات نهجاً شمولياً لا يتم حصره في مشروعات الطاقة المتجددة، بل تشمل المشروعات النظيفة للهيدروكربونات، من خلال النهج الدائري، كذلك تولي اهتماماً بالغاً بمواكبة التقدم العالمي في مجالات الطاقة، ومنها الطاقة المتجددة وتقنياتها، وإسهامها في استدامة امداد الطاقة عالمياً.
وتفعيلًا لهذه الرؤية أطلقت المملكة البرنامج الوطني للطاقة المتجددة، في إطار مبادرة خادم الحرمين الشريفين للطاقة المتجددة، ورؤية "المملكة 2030"، مستهدفة تعظيم وتحسين حصة مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الوطني، وذلك بزيادة إسهام مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة لإنتاج الكهرباء لما يقارب 50% بحلول عام 2030م، وتقليل استخدام الوقود السائل، والوفاء بالتزامات المملكة نحو تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفي هذا السياق، تعمل وزارة الطاقة السعودية على 15 مشروعاً للطاقة المتجددة، منها 14 مشروعاً للطاقة الشمسية الكهروضوئية، ومشروع لطاقة الرياح، بطاقةٍ إجمالية تبلغ 701 جيجاواط. وقد تم تشغيل مشروعين من هذه المشروعات، هما مشروع سكاكا للطاقة الشمسية ومشروع دومة الجندل لطاقة الرياح، بطاقةٍ إجمالية تبلغ 700 ميجاواط، ولا يزال العمل قائماً في مراحل تطوير المشروعات الأخرى، كما يجري العمل، حالياً، على تطوير وطرح مشروعات مستقبلية، لتحقيق الطاقة المستهدفة.
وتُعدّ محطة تحلية مياه الخفجي من أبرز التطبيقات العملية والنجاحات في المملكة بقطاع البحث والتطوير والابتكار، وأهم المشروعات القائمة التي تحقق مبدأ التحول إلى الطاقة المستدامة، وهي الأولى عالمياً في استخدام الطاقة الشمسية لتحلية المياه، كما أنه تُسهم بإزالة 10 آلاف برميل من البترول، و12 ألف طن من انبعاثات الكربون سنوياً.
كذلك تمتلك المملكة أكبر شبكة كهربائية في الشرق الأوسط، إضافةً إلى الموقع الاستراتيجي الذي يمكنها من أن تكون مركزاً إقليمياً لتبادل الطاقة الكهربائية. وفي هذا الإطار، هناك فرص كبيرة للتعاون في تنفيذ مشروعات قطاع الكهرباء في المملكة، بما في ذلك مشروعات التوليد (التقليدي، وباستخدام الطاقة المتجددة)، ومشروعات النقل والتوزيع، والربط الكهربائي مع الدول الاخرى، ومجالات تبادل الخبرات، والتدريب وبناء القدرات.
المركز السعودي لكفاءة الطاقة
عملت المملكة، ممثلة بالمركز السعودي لكفاءة الطاقة، على إصدار العديد من السياسات، وتنفيذ عدد من المبادرات التي أسهمت في تحسين كفاءة استهلاك الطاقة في قطاعات الصناعة والنقل البري والمباني، حيث قدّر الوفر المحقق في سنة 2020 بـ357 ألف برميل نفط مكافئ يومياً.
وفي عام 2020م، صدّرت المملكة، أول شحنة تجارية من الهيدروجين إلى اليابان، في شكل أمونيا زرقاء، دعمًا لبرنامجها للطاقة النظيفة، وبحلول عام 2026م، سيكون لدى المملكة أكبر مصنع إنتاج، على نطاق المرافق في العالم، يستخدم طاقة الرياح والطاقة الشمسية، لإنتاج الهيدروجين النظيف، وبحلول عام 2030م، ستصبح المملكة أكبر مزود للهيدروجين في العالم بإنتاجها 4 ملايين طن سنوياً.
استناداً إلى خبرة تمتد عقوداً في الريادة في مجال الطاقة، وفي ظل التوجه إلى الاستثمار في مشروعات لإنتاج الهيدروجين النظيف على نطاق واسع، تتبوأ المملكة مكانة مثالية لقيادة سوق الهيدروجين النظيف في المستقبل، إذ تشكّل تقنيات الطاقة النظيفة بما في ذلك الطاقة المتجددة، وطاقة الهيدروجين والطاقة النووية جزءاً مهماً من مزيج طاقة المستقبل، ومكوناً رئيساً لتحولات الطاقة في المملكة.