لم تعِ فاطمة ما حدث لها تمامًا عندما كانت ترعى الأغنام مع أبيها في منطقة ريفية تدعى مقبنة غرب مدينة تعز قبل نحو 3 أشهر.. كل ما سمعته هو صوت عالٍ يصم الآذان، ولهيب حار جدًّا قذفها في الهواء. ومع استعادتها بصرَها بما يكفي لتمييز ما حولها، رأت أن إحدى قدميها قد اختفت. أما الأخرى فأصبحت عظامًا مكسرًا ولحمًا مقطعًا. أما كفها الأيسر فقد كان ينزف بغزارة أفزعتها.
بعد لحظات رأت أباها يسرع نحوها وهو ينظر إليها بيأس وخوف وفزع، ليبدأ في الصراخ طالبًا النجدة، لكن أحدًا لم يحضر للمساعدة؛ فقد كانا في منطقة خطرة يتجنبها الجميع، وتحمل نذر الموت لكل من تطؤها قدمه.. كانت فاطمة قد داست دون أن تدري على لغم حوثي.
حملها والدها على ظهره بعد أن يئس من أن يسعفه أحد، وسار بها وهي تنزف الدماء لمدة ساعتين حتى وصلا إلى طريق آمن تمر من عليه السيارات، ومن هناك نقلها إلى المستشفى.
يقول أحمد -وهو والد فاطمة ويعمل راعيًا- لـ"عاجل" إنه على مدى الأشهر الثمانية الماضية، كان يرعى الأغنام مع ابنته في تلك المنطقة، وكانت مياه الأمطار تجرف التربة ليظهر تحتها قطع حديدية غُرست حتى نصفها في الأرض، فيما يظهر النصف الآخر بوضوح.
ورغم أنه كثيرًا ما كان يتلقى تحذيرًا من البعض بوجود الألغام، كان يجهل الخطر الذي تمثله؛ لذا كان عادةً ما يلجأ إلى تغطية كل لغم تظهره الأمطار ببعض الأشجار الشوكية؛ كي يعرف موضعه ويتجنبه لاحقًا.
ويضيف أنه كثيرًا ما احتمى مع ابنته من مياه الأمطار داخل منازل مهجورة، ليرى هو وابنته داخلها ألغامًا مختلفة تحيط بهما. وعليه، فلقد بنيا ظنهما أن للألغام أجزاءً ظاهرة تتاح لهما رؤيتها للابتعاد عنها.
ومع انتشار الألغام التي زرعتها ميليشيات الحوثي على نطاق واسع بالمناطق التي كانت تحت سيطرتها، باتت عودة السكان إلى تلك المناطق مخاطرة لا يجرؤ كثيرون عليها.
فحتى وإن قامت وحدات الهندسة العسكرية بتطهيرها، يظل التحقق من عدم وجود أي لغم محل شك؛ فميليشيات الحوثي استخدمت طرق تمويه عديدة لإخفاء ألغامها، إضافة إلى وجود ألغام بلاستيكية يصعب على الأجهزة المستخدمة اكتشافها.
جريمة تحت الحشائش
كانت المنطقة التي شهدت انفجار لغم تحت قدمي فاطمة، مغرية جدًّا لأحمد وابنته؛ فلقد نمت فيها حشائش وفيرة لإحجام الرعاة الآخرين عن دخولها، فتوجه هو وابنته بأغنامهما إلى هناك، غير عالم أن الحوثيين تركوا في تلك الأراضي أسلحة لا تهدف إلى شيء إلا قتل ضحايا أبرياء لا علاقة لهم بأي نشاطات عسكرية.
بُترت قدم فاطمة فور انفجار اللغم الأرضي الحوثي، فيما تعرض كفها الأيسر لتمزق عنيف فاستأصل الأطباء جزءًا كبيرًا منه لاستحالة إعادة ترميمه. أما ساقها الأخرى فقد تم تجبير كسورها الثلاثة بأكثر من 6 عمليات جراحية، كما أجريت لها نحو 9 عمليات تجميلية لزراعة الأنسجة.
وبعد مرور 3 أشهر من مكوثها بالمشفى، لا تزال أجزاء من جسد فاطمة ووجهها تحمل آثار الإصابة، كما أن حالتها الصحية تراجعت نحو الأسوأ.
الرعاية الطبية التي تلقتها أبقتها على قيد الحياة، لكنها لم تُعِدْها إلى الحياة.. وبين الأمرين فارق كبير، يدل على ضعف القدرات الطبية في اليمن، وتأثرها بالفوضى التي سببها الحوثيون في معظم مناطق البلاد.
وبما أن زراعة الأنسجة نادرة في اليمن؛ فقد كان على فاطمة أن تواصل المعاناة.. جروحها العميقة استمرت في الالتهاب، وتهتكت معها الأنسجة على نحو قد يدفع الأطباء إلى اتخاذ قرار مؤلم ببتر قدمها الثانية إذا لم تُنقَل على عجلٍ إلى مستشفيات متخصصة في الخارج.
فاطمة تتحدث
تقول فاطمة بحزن يغلب عليه العفوية: "لم أكن أعلم ما هي الألغام ولا الخطورة التي تشكلها على حياتي، بل كنت قد نسيت التحذيرات منها تمامًا".
وتضيف: "أشعر أني فقدت حياتي، أو أني أعيش نصف حياة؛ فأنا لا أستطيع التحرك من على سريري دون مساعدة"، ثم تشير إلى جسدها وتسأل: "هل سأقضي بقية حياتي على هذا النحو السيئ؟!".
أمل ودعوة
الآن مع معرفتها باحتمال بتر الأطباء قدمها الثانية، تحاول فاطمة إيجاد طريقة مناسبة لتعود بها إلى حياتها الطبيعية مرة أخرى، وتتساءل بعفوية: "هل فعلًا يمكن للأطباء أن يصنعوا لي أقدامًا تمكنني مرةً ثانيةً من السير؟!".
وتتابع بحسرة: "كل الأغنام التي كنت أرعاها لن تعوضني عن قدم واحدة ولو قرر والدي بيعها جميعًا؛ فالقدم غالية، وبدونها لن أستطيع السير مرة ثانية".
تأمل فاطمة التي انفصلت عن زوجها منذ نحو عام، أن تجد من يساعدها على السفر لمنع بتر قدمها الأخرى، وتقول: "الأمر الوحيد الذي يجعلني أعيش نصف حياة، هو الأمل في إنقاذ قدمي اليسرى. ولن يتحقق ذلك بسوى السفر إلى الخارج".
وشهدت منطقة مقبنة التي تعرضت فيها فاطمة لانفجار لغم حوثي، 8 حوادث مماثلة لآخرين سقطوا فيها ضحايا لألغام الحوثي؛ توفي أحدهم لاحقًا بالمستشفى، فيما بترت أقدام الآخرين جميعًا.
وحتى اليوم، رغم خلو المنطقة من أي عمليات قتالية، يرفض سكان القرية العودة إلى منازلهم وهم يعرفون أنها غارقة في بحر من الألغام الحوثية التي قتلت نحو 700 شخص، وأصابت 1100 آخرين خلال السنوات الماضية.