الركيان.. رجل كل المراحل
تسع سنوات تمثِّل تسعة أعوام دراسية كنت بجانبه، شاهدًا على الكثير من أعماله، قريبًا منه-بحكم عملي- أكثر من آخرين حوله ..
لا شيء يمكن أن يجبرني على كتابة هذه الأحرف؛ فقد رحل عن منصبه كما هو حال من سبقوه، وبقيتُ أنا وزملائي نواصل عملنا ..
لكنَّها تجربة مع رجل يستحق، أمضى بثباتٍ ليكون مصدر ثقة أميريْن لمنطقة القصيم وخمسة وزراء تعاقبوا على قيادة وزارة التعليم، وربما لم يسبقه في هذا الرقم المنجز أحد ..
أكتبُ عن عبدالله بن إبراهيم الركيان، مدير عام تعليم القصيم 1431-1440، وقبلها مدير عام تعليم البنات بالقصيم 1428-1431 ..
الرجل الذي استطاع بحكمته وهدوئه أن يطبِّق قرار دمج إدارتي البنين والبنات بالقصيم تحت مسمى إدارة واحدة دون همسة اعتراض من أحد من زملائه وزميلاته بوضع منهج شفاف وعادل لوضع الكادر البشري من الجنسين في مكانه الصحيح، وقد مرَّت تجربة القصيم كأنموذج مَتِين في ظلّ خلافات وصلت للمحاكم في بعض الإدارات التي طبقت الدمج واجتهدت بشكلٍ سلبيٍّ، الأمر الذي جعل من الوزارة تتدخل لحل الأمور !!
رجل دولة.. هذا ما يمكن أن أصف به عبدالله الركيان بعد سنوات مع العمل معًا؛ فهو بارع في حل المشكلات بهدوء وحكمة وهو ما يعتقده البعض خوفًا أو تراخيًا، لكن النتائج أثبتت أنَّه يرى أبعد مما يراه الآخرون، وحكيمًا في كتمان ما يراه خطرًا في نشره على المجتمع وسمعته، وصارمًا فيما يتأكد لديه أنه لا يحقِّق أهداف وطنه ..
أصبحت قيادته مكانًا خصبًا للجميع للتنافس على المناصب.. لا شللية ولا واسطة ولا لون أو عرق وهو ما جعل تعليم القصيم في صدارة المشهد البارز أمام الوزارة طوال وجوده مديرًا عامًا ..
كان يعتبر تعليم القصيم قطعة من جسده ومسؤولية أمام الله، ثم المجتمع بالمنطقة، ولذلك عندما حضرت لجنة وزارية عام1439 تطلب البدء في إجراءات إغلاق أكثر من تسعين مدرسة، منها سبعون تقريبًا بمدينة بريدة وقف باحترامه وهدوئه وبمبرراته المقنعة ومتابعته مع مسؤولي المنطقة حتى وصل الأمر لإغلاق سبع مدارس واحدة منها مستأجرة بمدينة بريدة والأخريات بمكاتب تعليم مختلفة..
لن أتحدث عن نزاهته وأمانته؛ فالكل في القصيم يعرفها وموقِنٌ بها، لكن للمعلومية لم يسكن في بيت يملكه سوى قبل عامين، وهو الذي بدأ البناء قبل ثمانية أعوام !!
من الأمور التي أحببتها فيه هي رفضه لخَلْق صدامٍ بينَ الزملاء؛ فهو يستمع ولا يعلِّق على الطرف الغائب أبدًا ويردِّد للطرف الذي أمامه عبارة «اييييه» «طيييب» ليبدأ حل الموضوع بهدوء.
يعرف زملائي في الإدارة أنني مشاكس لآرائه، وصريحٌ معه، ويعلم الله ذلك فقد أحببتُ أسلوبه وامتصاصه لكلِّ الآراء وانفتاحه حتى على من لا يؤيدونه، وقد أكون أحد الذين ذهبوا ضحية جديته وصرامته في متابعة الأمور ودقتها، وحرصه الشديد على الاتقان حتى إنني نمتُ يومًا في غرفة عمليات الدفاع المدني لأتابع سير الأمطار في القرى والمحافظات؛ حيث يتم متابعة تعليق الدراسة ببعض الأماكن لكن دون إعلان إعلامي للقرار .
قد لا يستقيم المقال في نظر البعض دون ذكر لسلبيات بطله، وهنا أستسمحكم بأن أعترف أن إيجابيات ذلك البطل ومواقفه لم تَدَع لمَن يرى أنَّ هناك سلبية تدعو لذكرها؛ فقد كان أبا راكان بارعًا في تحمُّل المسؤولية، ولم يغب حماسه ويقظته حتى وهو يودِع تحت الثرى والدته، ويبقي دموعه حبيسة صورة والده الملقى على السرير الأبيض دون حراك منذ خمسة أشهر ..
استقطب رجال أعمال كشركاء للتعليم فأصبحت الجوائز تعمُّ كلَّ طيف، وأسهم في افتتاح عشرات المدارس رغم شحِّ الموافقات وأطلق مشروع نقل المدارس من الأحياء قليلة العدد إلى أحياء جديدة مكتظة، فحافظ على استقرار المجتمع تعليميًا منتصرًا على النمو السكاني الهائل كل عام.
لم يكن التميز سوى هاجس بدا له، فحققت الإدارة بعناصرها الرجالية والنسائية 99 جائزة منذ انطلاق جائزة التعليم للتميز، وهو رقم تاريخي كبير جدًا يؤكِّد أنَّ بيئة التعليم بالقصيم ناجحة للغاية.
تبقى مواقفه الإنسانية الوطنية صورة ناصعة لبياض قلبه وصفاء نِيَّته؛ فقد انفرد بتسمية مدرسة باسم شهداء الوطن، تخليدًا لذكرى رجالات هم فخر وطننا، واهتم وناضل واستخدم روح النظام في فتح فصول دراسية للأطفال المنوَّمين بأقسام الأورام ممن يقضون فترات طويلة بالمستشفى، ولم يلتفت سوى لنظرات فلذات الأكباد ممن ابتلاهم الله بالمرض بتعاون كبير مع صحة القصيم حتى أمنت الوزارة بهذا المشروع، وأطلقته مشروعًا عامًا بكل المناطق ..
تحت قيادته انطلقت مدرسة خاصة للموهوبين، ولم يرضِه الطموح حتى تمَّ افتتاح مجمع للموهوبين تحت اسم مجمع الأمير فيصل بن مشعل للموهوبين، ومجمع للموهوبات تحت اسم مجمع أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها .
عمل بانفتاح مؤمنًا بأنَّ العمل الجماعي هو السبيل للقمة فأصبحت إدارة تعليم القصيم شعلة لا تنطفئ من الابداع والمنجزات ..
هو من القلة الذين نالوا مرتبة وظيفية «الرابعة عشر»؛ ففي العادة مديرو التعليم مثلهم مثل المعلمين على كادر التدريس «مستويات» فقد كان تعبيرًا تقديريًا له من الوزارة وعرفانًا بتاريخه الناصع منذ أن كان مديرًا عامًا للاختبارات والقبول بالوزارة .
كل ما فيه يدعو للتقدير حتى وإن اختلفنا في جزئيات قليلة، كنت لا أخفيها أبدًا فالرجل الذي واجه تقلبات مجتمعية ومتغيرات عبر 12 عامًا من القيادة التعليمية يستحق أن يوصف بـ«رجل كل المراحل» وكفى.