الشيخ سعد البريك.. حين يصمت المنبر ويرحل الفارس

تم النشر في

الحقيقة الأولى

لا مفرّ للمنبر من الصمت، ولا من الفارس من الرحيل؛ فكل صوت دعوي ينحسر حين يرحل صاحبه، ويبقى صدى علمه وأثره في النفوس.

الحقيقة الثانية

العلماء ميراث الأمة وبناة صروحها المعرفية؛ ولا يبقى العلم بقاءً حقيقياً إلا بقبض العلماء، فهم شجرة تنمو أجيالاً بعد رحيل أغصانها.

الحقيقة الثالثة

كل إنسان يُقاس بمنجزاته؛ فالمجد لا يُكتسب بالادعاء، وإنما بالعمل الصادق في الدعوة والتعليم والجهاد في سبيلٍ يسّر الله لفاعله الخير.

“وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون”

في يوم السبت 3 مايو 2025م، فقدت المملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي داعيةً فذًّا ومعلّمًا نابهًا، انه الشيخ سعد البريك، صوت المنبر الشجي وقد رحل عن عمرٍ يناهز 63 عامًا.. ترك وراءه حزنًا عميقًا في قلوب محبيه وتلاميذه الذين عرفوا فيه الداعية المخلص والمربي الحاني والعالم العامل عُرف بفصاحته وبلاغته، وكان صوته رائدًا في الساحات الدعوية والإعلامية.

* تروح الحادثاتُ بنا وتغدو

لها نَهَمٌ ونحن لهنّ وِردُ

* جواهر هذه الأرواحُ أضحت

وفي عينِ المنونِ لهن نَقدُ

* سلامُ الله والرحماتُ تَتْرَا

على سعدٍ وما أدراكَ سعدُ

* قضى عمرًا بمدتِه قصيرًا

طويلًا في مآثره يُعَدُّ

* ولكن العزاءُ لنا مصابٌ

بخيرِ الخلقِ، للأكبادِ بَرْدٌ

السيرة العلمية والعملية

تميز رحمه الله بانطلاق مبكّر في التحصيل العلمي، فأكمل مسيرته على النحو التالي:

– البكالوريوس: نال شهادة الشريعة (قسم الاقتصاد) من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ.

– الماجستير: حصل على درجة الماجستير في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء، بأطروحة بعنوان “التأمين التجاري في الإسلام”.

– الدكتوراه: ارتقى إلى درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء أيضاً، بأطروحته “اختيارات الإمام الخطابي الفقهية” التي نالت تقدير “ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى”.

– كما قرأ على عدد من العلماء، وعلى رأسهم شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، حيث تلقى عنه العلم وقرأ عليه كثيرًا من الكتب، وأخذ منه إجازة في قراءة موطأ الإمام مالك كاملًا، مما رسّخ صلته الوثيقة بكبار العلماء، وعمّق فهمه للفقه والحديث، وكان يذكر هذا الشرف في مجالسه باعتزاز وتقدير.

المناصب والمسؤوليات

تفانى الشيخ سعد البريك في خدمة دينه ووطنه عبر تولي المناصب التالية:

– إمام وخطيب جامع الأمير خالد بن سعود – ظهرة البديعة بالرياض لأكثر من 25 عامًا.

– مستشار ونائب رئيس اللجنة العليا بمكتب الأمير عبد العزيز بن فهد للبحوث والدراسات.

– عضو لجنة التربية العليا ولجنتها الفرعية برئاسة الشيخ عبد الله المطلق.

– مشارك في فريق التوعية داخل السجون بالمملكه.

– المشرف العام على المكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالبديعة والصناعية الجديدة.

– عضو الهيئة الشرعية للندوة العالمية للشباب الإسلامي.

– عضو مجالس أمناء مؤسسة الوقف الإسلامي في السويد ومجلس أمناء مسجد التوحيد في طوكيو.

الإنتاج العلمي والإعلامي

«إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلمَ انتزاعًا… إنما يَقْبِضُهُ بقبض العلماء.»

لهذا الشيخ سعـد رحمه الله أسهم في إثراء المكتبة الإسلامية والإعلام الدعوي بنتاج علمي وإعلامي متميز:

– مؤلفاته الرئيسية:

* “الاختيارات الفقهية للإمام الخطابي” (6 مجلدات)

* “الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز”

* “فتاوى الفضائيات: الضوابط والآثار”

– برامجه الدعوية:

* “خذوا عني مناسككم”

* “وثبت الأجر”

* “وإنك لعلى خلق عظيم”

* “فاستبقوا الخيرات”

* “النجاة”

* “سواعد الإخاء”

الصفات والمزايا

اتسم الشيخ سعد بمجموعة من الخصال التي ميزته عن غيره من الناس فهو الذي نشا وترعرع في محاظن العلم والتربية ومن هذه السمات الكريمة:

– كان حريصًا على وقته ووقت الآخرين، يحمل دائمًا همَّ الأمة في كلماته وأفعاله وتصرفاته.

– محبًّا للشباب، يستمع إليهم بحنان الأب ويُرشدهم بحكمة الأخ؛ يوجههم لحب هذا الدين والتفاني من اجله والنجاح في الحياة، ويحذّرهم من مواطن الشبهات والفتن والأفكار الضالة ومتمسك بأمن الوطن.

– اتسع مجلسه ومزرعته لكل ضيف من داخل المملكة وخارجها، يكرم العلماء والدعاة والعامة بسخاء دون تمييز.

– يجمع في شخصيته بين المزاح والجد، لا يملّ من الذكر والتعاون على البرّ والتقوى، وينفق من ماله ووقته وجهده بسخاء.

– مدافع شرس عن وطنه؛ منبره كان صوتًا للحق والجمال والبذل والدفاع عن قضايا المسلمين، ومشاركًا رئيسيًا في حملات الخير داخل المملكة وخارجها.

– تتلمّذ على كبار العلماء، على رأسهم الشيخ ابن باز – رحمه الله – وتميّز بفهمه العميق للواقع ورؤيته الشاملة للقضايا المعاصرة.

– تميزت تلاوته الخاشعة للقرآن بأسلوب مريح للقلب

– خطابه الفصيح المتدفق بالبيان والنصح الذي ياسر القلوب ويزيد بالخشوع.

– إلقاؤه للدروس العلمية والقصائد الوعظية بلحنٍ شجي لا تمل منه ولا تكل

– مشروعاته الخيرية في بناء عدد من المساجد والمدارس والمراكز الدعوية في الخارج لا تعد ولا تحصى في كثير من دول العالم على نفقته وعلى نفقة غيره ممن يثقون به من المحسنين.

– نصرة الضعفاء ومساعدة المحتاجين بلا تمييز داخل المملكة وخارجها

– شفاعاته وعونه لمن حوله دون انتظار او مناشدة

– تنسيق علاقاته الإيجابية مع العلماء والمسؤولين لزيادة الفائدة وتقارب وجهات النظر واتحاد الجهود

– استثماره للوسائل الإعلامية التقليدية والحديثة في الدعوة إلى الله وإيصال الكلمة المفيدة

– اجتهاده في تعليم القرآن للرجال والنساء ورعايته للمدارس الاحتسابية في كل مكان وتوعية الجاليات.

إرثه العائلي

وكان للشيخ – رحمه الله – ستة من البنات المصلحات وتسعة من الأبناء وهم الدكتور عبدالله ونايف وحمد وفهد وعبدالعزيز وفيصل ومحمد وخالد ورائد وقد أولى تربيتهم وإعدادهم لخدمة الدين والوطن عناية فائقة.

وقد تطورت بيني وبين الشيخ عبدالله والشيخ حمد علاقة ودية ومهنية عبر والدهما فأثمرت تعاونًا ممتدًا في مجال المحاماة وشهدت على مدار عشر سنوات تقريبا حرصهما واهتمامهما وحماسهما المستمر وإخلاصهما في العمل وتوالت منهما المبادرات المميزة.

جلسات علمية لا تُنسى في لندن

عشنا لحظات علمية ملهمة بجوار الشيخ سعد البريك في أحد فنادق لندن على مدار شهرٍ تقريبًا مع عدد من العلماء والدعاة ومنهم:

– الشيخ أحمد بن سير مباركي (رحمه الله) الذي جاء للعلاج والشيخ يوسف الغفيص والشيخ محمد الرومي وقد جاوا عبر برنامج التعريف بجهود المملكة ونشر الدعوة والذي يشرف عليه ويدعمه صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد حفظه الله.

كنا نتحلّق بعد مغرب كل مساء في جناح الشيخ احمد وكان مجلس علميا عامرا بالتفسير والنقاش الفقهي المعاصر، في حلقات ذكرٍ روحية وأخويه، وكان الشيخ أحمد رحمه الله يتلقى الأسئلة إلى جانب الشيخ يوسف والشيخ سعد، فيما كان الشيخ الرومي يتحفنا بتأملاته في تفسير الرؤى ثم نخرج مشيا على الاقدام لمدة ساعه في بعض الايام ظلّت ذكريات تلك الليالي العطرة حية مكتوبة في الوجدان حتى جاء النبأ المفجع رحيل الشيخ وقد سبقه شيخنا أحمد رحمهما الله جميعا وانزلهما منازل الصالحين وحسن أولئك رفيقا.

صوت النحل

كان رحمه كثير الترحال في الدعوة إلى الله ودعم قضايا المسلمين ومن القصص التي لا تُنسى يقول لي:

لما وصلت اول مره للصومال، نمت في فندق وقريب منه مسجد وقبل الفجر بحوالي ساعة صحيت على همهمات خفيفة كأنها أصوات النحل طلعت من الغرفة وسألت احد العاملين ماهذه الاصوات ؟

قال: هذا صوت أطفال تحفيظ القرآن، يحضرون لساحة المسجد قبل الفجر بساعة تقريبا ويجلسون في الساحة يقرؤون ويحفظون القرآن الكريم

نزلت كي أراهم بعيني، لقيتهم مجموعة صغار جالسين على الحصير يرددون الآيات بخشوع

تأثرت من عزيمتهم وبساطتهم، ورحت أحييهم بكلمة طيبة

ويقول لي: أجمل ما في الموضوع أنهم يبدأون يومهم بكتاب الله قبل لا يسمعوا الأذان نفسه، كأنهم النحل يجمعون رحيق الإيمان في سكون الصباح

أي أمة هذه وشبابها يصحون على كتاب الله؟

لحظة الخبر وصدى الذكريات

صدمني نبأ وفاة اخي وصديقي وشيخنا “أبا عبد الله” عبر وسائل التواصل الاجتماعي أثناء رحلتي مع ابني محمد في القطار من فيينا إلى براغ..

حينها شككت في بداية في الخبر، ثم تأكدت بعد بحثٍ سريع في قوقل، بعدما انتشر خبر رحيله كما تنتشر النار في الهشيم..

توقفتُ صامتًا لأستحضر شريط ذكرياتي معه – علمه، جهده، حضوره الذي لا يُعوَّض – فمسكت قلمي مسرعًا، وأنا مدركٌ أن حقه علينا أعظم من أن تُسبره الكلمات.

كلمات وداع من محبيه

ضجّت مواقع التواصل بالحزن والدعاء، ونعاه محبوه بـ”المدرسة الدعوية المتنقلة”، مشيدين بوسطيته وجهوده في نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والتكافل والدعوة الى الله

لهذا أعاد كثيرون نشر محاضراته ومقاطع من خطبه.

وكم كنت أتمنى أن يُطلق اسمه على مركز دعوي متكامل، إلى جانب تسمية شارع ايضا باسمه في مدينة الرياض، وفاءً لعطائه وتخليدًا لأثره الدعوي وجهوده في خدمة دينه ووطنه وأمته.

التعازي بالوالدين

وما أسرع الأيام حين تعدها ما أسرع الأيام تجري بنا دون أن نشعر.. تبدو سرعة الأيام مخيفة..!

رُبَّ باكٍ عَلى مَيتٍ وَباكِيَةٍ

لَم يَلبَثا بَعدَ ذاكَ المَيتِ أَن بُكِيا

وَرُبَّ ناعٍ نَعى حيناً أَحِبَّتَهُ

ما زالَ يَنعى إِلى أَن قيلَ قَد نُعِيا

فلا انسى انني عزّيت ابا عبدالله بوفاة والده ووالدته قبل تسعة أشهر، وكان بينهما في الوفاة يومين تقريباً، ودُفنا في قبرين متجاورين.

ويبدو أن برّه وحبهما لم يسمح له بالبقاء بعيدًا عنهما طويلاً، فرغبت روحه باللحاق بهما

اللهم اجمعنا وإياهم وآبائنا وأمهاتنا والحبيب المصطفى ﷺ وجميع المسلمين في جنّات النعيم.

الوداع الأخير

اختتم حياته في ذاك المشهد المهيب حين صلى عليه الناس في جامع الراجحي يوم الأحد، ووري الثرى بمقبرة النسيم وسط حضورٍ كثيف من العلماء والمسؤولين والدعاة وسواد كبير من محبيه.

وكان دائمًا يردد قول الحبيب ﷺ: “خير الناس أنفعهم للناس”. ونحسبه كذلك، والله حسيبه.

الحَمدُ لِلَّهِ طوبى لِلسَعيدِ وَمَن

لَم يُسعِدِ اللَهُ بِالتَقوى فَقَد شَقِيا

كَم غافِلٍ عَن حِياضِ المَوتِ في لَعِبٍ

يُمسي وَيُصبِحُ رَكّاباً لِما هَوِيا

وَمُنقَضٍ ما تَراهُ العَينُ مُنقَطِعٌ

ما كُلُّ شَيءٍ يُرى إِلّا لِيَنقَضِيا

وحين يصمت المنبر … ويرحل الفارس، يظل أثره

صدقة جارية في قلوب من عرفه وعاش على بركته

رحم الله شيخنا سعد وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل علمه وعطاءه صدقةً جارية في ميزان حسناته.

د. عبدالله القفاري

@Dralqefari

قد يعجبك أيضاً

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa