القدوات التاريخية
يكشف التاريخ للإنسان كيف تُصنع القيم وكيف يتحول النموذج الفردي إلى قوة تعبر الأجيال؛ فالتاريخ لم يخلد الأشخاص لمظاهرهم ولا لشهرتهم السريعة بل خلدهم لأثرهم ولصدقهم ولوعيهم الذي تجاوز زمنهم وتأثيرهم الذي ظل ممتدًا عبر القرون، وهكذا نجد أن أعظم النماذج في تاريخ الإنسانية هم الذين جمعوا بين المعرفة والأخلاق والعمل وقدروا مسؤولية الإنسان في صنع محيطه وصناعة قدوته، فالأنبياء والعلماء والقادة كانوا نماذج تصنع الوعي قبل أن تصنع الإنجاز وكانت حياتهم دليلاً على أن القدوة ليست خطابًا يُلقى ولا نصيحة تقال بل مسارًا طويلا من الانضباط والعمل والمعاني ولهذا بقيت سيرهم مرجعًا ثابتا للقدوة التي لا يحدها زمان ولا مكان.
النموذج النبوي الأعلى
وتبقى السيرة النبوية الدليل الأعظم على أن القدوة ليست مجرد فكرة بل قوة تعيد تشكيل النفس وتبني الإنسان من جذوره، فقد كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يُقدم نموذجا يجمع الأخلاق والعمل والرحمة والحكمة وكان قدوة في السلم والحرب وفي البيت والمجتمع وفي التعامل مع الموافق والمخالف، وكانت سيرته نموذجا حيا يترجم القيم إلى ممارسة ولهذا قال تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فهذه الأسوة لم تكن نصا محفوظا بل إنسانا تتحرك قيمه أمام الناس وهكذا بقي النموذج النبوي أساسا لكل حديث عن القدوة في كل زمان ومكان.
مدارس الخلفاء الراشدين
وتقدم مدارس الخلفاء الراشدين واحدا من أبرز النماذج العملية للقدوة التي تجمع بين الأخلاق والقوة وبين الحزم والرحمة، فقد كان أبو بكر مثالا في الثبات والصدق وتحمل المسؤولية، وكان عمر نموذجا في العدل والحزم والرقابة الذاتية وكان عثمان يعكس معنى الحياء والسخاء ونقاء القلب، وكان علي يجسد الشجاعة والعلم والفكر، وهكذا أصبحت سير الخلفاء دليلا على أن القدوة تتحول إلى أثر حين تصبح الأخلاق جزءا من القرار لا مجرد شعار.
فيلم معاوية رضي الله عنه
ويعد فيلم معاوية - رضي الله عنه - مهما للشباب لأنه يقدم نموذجا سياسيا يقوم على الحكمة وضبط النفس وإدارة الخلاف ويبين كيف تتحول القيادة المتزنة إلى مساحة استقرار بعد اضطراب؛ ولهذا يُصبح عرض سيرته عبر الدراما الهادفة وسيلة لتعريف الأجيال بنموذج راشد يعزز لديهم معنى التعايش واتزان المواقف والبعد عن التطرف.
القدوة الوطنية الحديثة
وتُقدم سيرة الملك عبدالعزيز نموذجا وطنيا يجمع الشجاعة والرؤية والعمل؛ فقد وحد مناطق متعددة وصنع حالة من الأمن والاستقرار وبناء المؤسسات وكان يعتمد الحكمة في القرار والصبر في التنفيذ، ولهذا أصبحت سيرته مثالا مهما لقدوة وطنية ويعد تقديم قصته للأجيال ضرورة لتعميق فهمهم لمعنى التأسيس، ومن أهم وسائل نقل هذا النموذج هي الأفلام الوثائقية عن الملك عبدالعزيز التي تعرف الشباب بتاريخهم وتمنحهم قدوة وطنية واضحة في القيادة والإنجاز.
الريادة الاقتصادية الملهمة
وتظهر سيرة سليمان الراجحي مثالا للريادة الاقتصادية التي تقوم على الجهد والانضباط والبساطة وحسن الإدارة فقد بنى مؤسسة قوية ثم اختار في آخر عمره أن يتخلى عن ثروته كاملة لأبنائه وللعمل الخيري، معتبرا أن المال أمانة وأن الإنسان مستخلف عليه، وهذا ما يجعل قصته من أهم النماذج التي تقدم للشباب معنى الريادة المرتبطة بالمسؤولية قبل الربح وبالأثر قبل الأرقام.
النموذج العالمي الإبداعي
وتقدم تجربة ستيف جوبز مثالا عالميا يقوم على الابتكار والعمل بشغف فقد حول أفكارا بسيطة إلى منتجات غيرت طريقة تواصل العالم وتفكيره وكان يؤمن أن الإبداع يحتاج إلى خيال وشجاعة، ولهذا بقي أثره ممتدا بين الأجيال لأنه نموذج يقوم على العمل والإبداع لا على الشهرة العابرة.
الدراما وصناعة النموذج
وتسهم الدراما الهادفة في نقل القدوة للأجيال لأن الصورة أقرب إلى الوعي من الكلام المجرد فالأعمال التي تقدم نماذج أخلاقية أو قيادية أو علمية تترك أثرا أعمق من المحاضرات وتقدم للشباب قدوة يمكن رؤيتها ومقاربتها؛ ولهذا تعد الدراما والأفلام الوثائقية أداة مهمة في رفع الذوق العام وصناعة وعي يقوم على المعرفة لا على الضجيج.
الدراما العربية الملهمة
وتقدم الدراما العربية عددا من الأعمال التي صنعت أثرا عميقا في وعي الأجيال لأنها عرضت نماذج تاريخية وقيمية بصورة بصرية قوية، ومن أهمها فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي يقدم نموذجا في القيادة والشجاعة وفيلم "الرسالة" الذي يجسد بدايات الدعوة وقيم الصدق والصبر وفيلم عمر المختار الذي يعرض معنى المقاومة والكرامة ومسلسل "عمر" الذي يقدم سيرة الخلفاء بمنهجية واضحة والوثائقيات التي تروي سيرة الملك عبدالعزيز وتكشف مراحل البناء والتوحيد، وتعد هذه الأعمال جسورا بين الماضي والحاضر لأنها تقدم للشباب نماذج عربية أصيلة يمكن أن يرتبطوا بها ويستلهموا منها معنى القوة والأخلاق والعمل.
الأفلام العالمية الملهمة
وتقدم الأفلام العالمية الهادفة نماذج إنسانية واضحة تساعد الشباب على رؤية القدوة في العمل والإصرار والتحول، ففيلم Invictus يعرض قيادة نيلسون مانديلا في توحيد شعبه رغم التحديات وفيلم Jobs يقدم رحلة ستيف جوبز في الابتكار والمثابرة وفيلم Malcolm X يقدم نموذجا للتحول العميق نحو الوعي والالتزام أما فيلم Ride On 2023 لجاكي شان فيجمع بين الفروسية والصبر والمثابرة من خلال علاقة أب بابنته ووفائه لفرسه العجوز، وهذه الأعمال وغيرها من الأفلام المفيدة تمنح الشباب نماذج تقوم على القيمة والعمل لا على الضجيج ومع ذلك فإن تقديمها يحتاج إلى تنقيح واع لاختيار ما يناسب قيم المجتمع وتركيز الأجيال على المعنى دون المشاهد غير المناسبة.
"سووديوود" دراما الأجيال
وتزداد الحاجة اليوم إلى إنشاء منصة إعلامية كبرى تنتج الدراما والأفلام للأجيال وتقدم محتوى يقوم على القيم والهوية، ولهذا يمكن أن يكون مشروع "سووديوود" خطوة وطنية تشبه هوليود وبوليوود لكنه بروح سعودية يقدم قصص الأبطال والتاريخ والعمل والابتكار ويصنع أيضا أفلاما للصغار وفي مختلف المجالات التعليمية والعلمية والقيمية حتى يتشكل وعيهم على نماذج صحية وواضحة، ويحتاج هذا المشروع إلى ميزانية كبيرة وفريق وطني موهوب في الكتابة والإخراج والتقنية ليصنع أعمالا يمتد أثرها لسنوات فالصورة اليوم أقوى من النص والدراما القوية قادرة على بناء وعي وصناعة فخر وطني يعبر الحدود.
القدوة والأثر الجماعي
ومن القدوة الفردية إلى الأثر الجماعي يتوسع تأثير النموذج الإيجابي حين ينتقل من شخص واحد إلى أسرته ثم إلى مجتمعه فالسلوك الصادق يعيد تشكيل الوعي ويصنع اتجاها يقوم على العمل والمسؤولية، وعندما تتكرر هذه النماذج تتكون حركة قيمية واسعة تخفف من حضور الضجيج وتحد من انتشار القدوة السطحية ولهذا تصبح صناعة القدوة في الإعلام والتعليم والمجتمع جزءا أساسيا من مشروع النهضة لأن التغيير يبدأ بشخص واحد لكنه ينتهي بثقافة عامة تمتد بين الأجيال.
وأخيرا صناعة القدوة
وتؤكد المقالات السابقة أن صناعة القدوة ضرورة لبناء وعي الجيل لا خيارا ثانويا فربط الشباب بقدوة واحدة فقط يحمل خطرا كبيرا، لأن النموذج الواحد قد يخفي جوانب عنف أو اضطراب تنتقل إليهم دون قصد ولهذا يصبح تنويع القدوات أكثر أمانا واتزانا، كما تبرز الحاجة إلى الحد من انتشار القدوات السلبية ومشاهير السطحية في وسائل التواصل الاجتماعي والعمل على ضبط تجمعاتهم ومخيماتهم بوجوب التصاريح ووضع القيود عليها لضمان انضباطها وإضافة المفيد إليها لما يسببونه من تشويه للذوق العام وانحراف في تصور النجاح، وفي المقابل فإن نشر القدوات الإيجابية ورفع حضور أصحاب القيمة والمعرفة هو الطريق لصناعة وعي راسخ يقل معه الضجيج وتضعف النماذج السطحية وينشأ جيل أوضح رؤية وأقدر على بناء أثره ومستقبله.