آهاتُ الفَقد!

آهاتُ الفَقد!

حدثٌ مؤلم وفاجعةٌ كُبرى ألمّت بأبناءِ خالي بوفاةِ أمهِم وأخيهِم في وقتٍ واحد، اللذين تم دفنهما بعد صلاة فجر يوم الجُمُعة الماضي ١١ شوال ١٤٤٠ في قرية أبو القعائد.

مات الابن فكانت الفاجعة والصدمة على أمه التي لم تتحمل فراق ابنها، فدوت صرختُها الأخيرة ولحقته، في حينه، بعد سماعِها خبر وفاةِ ابنِها المؤلم، ويا له من مشهد مأساوي ناح لأجله الجميع!

جموعٌ غفيرة من أهل القرية ومن خارجها أدوا الصلاة عليهما وشيعوهما إلى المقبرة في لحظة مؤثرة دامعة.

كُنتُ أنا وجميع أهلي وأقاربي وأصدقاء أبناء أسرة المتوفيين وأهل قرية أبو القعائد نعيشُ قمة الحزن لهذا المصابِ الجلل.

دخلتُ مع أخي علي ابن خالي وشقيق المتوفى وابن المتوفاة.. إلى منزلِ الأسرة لتوديع المتوفيين وتقبيل رأسيهما.

حملتُ معهم الجنازتين واحدةً تلو الأخرى، رغم ما كان بقدمي اليمنى من كَسر، فتناسيتُ ألمَ الكَسرِ لأن في القلبِ انكسارًا أشدَ ألمًا من القدم، ففاق الألمُ النفسي الألمَ الجسدي بعد أن عِشتُ الحزنَ في تلك اللحظةِ من رأسي حتى أخمصِ قدميَّ.

وأثناء حمل الجنازتين من المنزل إلى المسجد، كُنا نسمع صوت الحزن والأسى في البكاء ونبراته، الذي يندفع من أفواه أفراد العائلة عند وداعِهِم لأمهِم وأخيهِم وأبيهِم وخالِهِم وعمِهِم وجدتِهِم.

وإن انهمار أصوات الوداع مزقت أعماقي دون هوادة، واقشعر شعرُ جسدي منها، فذرفت عيناي دموع الحزن والغياب الأبدي، مشاركًا أبناء خالي ألمهم في هول مصيبة الموت التي نزلت بهم!

وهناك تنوعت عباراتُ الوداع من قريبات المتوفى والمتوفاة.. نعم، إنه الرحيلُ المر الذي بكى منه المكان وتأوه فيه الزمان.

رحلا وبقيت الذكرى التي لا تُنسى.. هو موقفٌ كان يهطل بالأنين.. موقفٌ كان فيه الحُزنُ يمزقنا من الوريد إلى الوريد.. موقفٌ تنهمر فيه الدموعُ دونَ إرادة، وتظهر فيه المشاعرُ الصادقةُ دون تزييف!

وهو وقتٌ قاسٍ تجرع فيه أهلُ المتوفيَيْن مرارةَ ألمِ فقد الأقرباء.. تناثرت حينها عباراتُ وكلماتُ الدعاء والوداع:

الله يرحمك يا أمي - الله يرحمك يا أخي - الله يرحمك يا أبي - الله يرحمك يا خالي - الله يرحمك يا عمي - الله يرحمك يا جدتي.. الكلُ شريك في هذا المصاب الأليم.

كانت العبارات ممزوجة بنواحِ القلبِ ونزيفه، وتحكيه دموعٌ سُكِبت في لحظةِ الرحيلِ وتأبى أن تجف.

في تلك الساعة كانت صورة الوجع لتلك اللحظة ترويها دموعُ الفراق وآهاتُ الألم، فيظهر ضعفي الحقيقي أمام هذا المشهد المهيب؛ لأن لي قلبًا رحيمًا رؤوفاً عطوفًا وهبني اللهُ إياه، فتدفقت دموعي بلا توقف مُعلِنةً إحساسي بألم الفقد لمن فقد قريبًا له.

تبخرت الكلماتُ في هذا الموقف ولم تبق إلا لغةُ الدموعِ والأسى والوجع الذي يسكن بين الضلوع.. ألمٌ لفراق أم، وألمٌ لفراق أخ، وألمٌ لفراق أب.

ومن في الدنيا كالأم؟! فهي نبض القلوب وغيمة مطيرة بالرحمة والحب والحنان.. إنها الحياة الكبرى لنا.

ففقدان الأم فقدان لكل معاني الحياة، وفقدان للحنان، وفقدان للحِضن الدافئ.

و من في الدنيا كالأخ؟! فهو السند وهو الذي يُشدُ به الأزر؛ ففقدانه كسرٌ لا يُجبر، وحياة من دونه تتعثر.

ومن في الدنيا كالأب؟! ففقدانه فقدان للغطاء وقت الشتاء، وفقدان للدعم والرعاية والقوة والسخاء.

وهكذا هي الحياة الدنيا.. نمشي فيها ولا ندري متى تُفاجئنا الأقدارُ بموتِ قريبٍ أو صديقٍ أو زميل، ويجب علينا أن نتعامل مع المصائب كما أمرنا نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لكي نؤجر عليها.

وهناك حكمة يختبر اللهُ -سبحانه وتعالى- بها الإنسان بالابتلاء بالشدائد والنوازل؛ فالمؤمن يصبر و لا يجزع؛ احتسابًا للأجر والمثوبة من الله -تعالى- وطلباً لرضاه.

فإن الصبر عند الابتلاء والرضا بالقضاء له أجر عظيم عند الله -تعالى- والمؤمن مُبتلى؛ فآلامُ الدنيا تصنع في أعماقِنا جراحاتٍ نازفة؛ لأن فقد القريب جرحٌ في القلب، وغصةٌ في الحلق، ووجعٌ يظهرُ في أعيُنِنَا، وصدى لما في النفسِ من آلام الفراق والحسرة.

اكتوى أبناءُ خالي وأقرباؤهم بآلام الفقد، فكانوا يحاولون إخفاء الحزن، لكن كان يظهر في أعينهم، وعلى شدة ما بهم، كانوا يستقبلون الناس بابتسامة الرضا بقضاء الله وقدره.

والمؤمنُ يحمد الله –تعالى- إذا نزلت به مصيبةُ الموت. ولا ينفعُ في هذا الموقف سوى الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة والعفو والصدقة عنهما.

 وهكذا علينا أن نصبر عند نزول المصائب، ونصنع الفرح لننثره على وجوه الآخرين؛ فالابتسامةُ تُعانقُ ذلك الوجع الذي يعتصِرُنا، ونركضُ بها في طرقاتِ الحياة بصمتٍ ولا نتكلم عن بؤسِنا وأسانا؛ رضاءً واستسلامًا بما الله صانعُ.

Related Stories

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa