دول كثيرة في العالم لا تعاني من قــلة المياه .. البرازيل وفنلندا وايسلندا وكندا يمكن لأي منها استيعاب (كافة البشر) دون أن يتأثر مخزونها المائي.. كندا لوحدها تضم 20% من المياه العذبة على كوكب الأرض، وفـنلندا وإيسلندا تغطي الثلوج والبحيرات العـذبة ثـلثي مساحتهما ــ أمـا البرازيل فـتتفـوق على الجميع بفضل كميات الماء المهولة التي تقدمها روافـد الأمازون وغاباته المطيرة!!
... وفي المقابل هناك دول تعاني من شح خطير في المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي.. يقع معظمها في منطقة الشرق الأوسط ــ وتحديداً في عالمنا العربي ــ ووصلت المؤشرات في بعضها إلى مستوى مُـقلق فعـلاً.. قـطر، وإسرائيل، ولبنان، والأردن، وإيران، وليبيا، والكويت؛ تحتل بالترتيب المراكز الأولى عالميا في شح المياه ــ في حين تأتي السعودية في المركز الثامن حيث لا أنهار ولا بحيرات ولا أمطار كافـية..
حـالة التصحر والفقر المائي هي التي جعـلت الإمبراطوريات الكبيرة تزهـد في جزيرة العرب (التي تُـشكل السعودية اليوم معظم مساحتها) ولا تتجرأ على احتلالها.. الجـيوش الإغريقية، والفارسية، والرومانية، والعثمانية، والبريطانية؛ جميعها تجنبت التوغل فـيها بسبب ندرة المياه وحرارة الصحراء وقسوة الأجواء .. الاستثناء الوحيد (خلال التاريخ المعروف) كان في العهد السعودي حيث ظهرت دولـة حـديثة قادرة على النمو والإزدهار في منطقة لا تصلح (من الناحية الجيوسياسية) للاستيطان البشري..
"السعودية" تعـد اليوم ظاهرة تاريخية كونها نجحت في استباق احتياجاتها المائية بتحلية البحر وجلب المياه من مسافات بعـيدة.. أصبح سكانها يصنفون ضمن الأكثر استهلاكاً للمياه بفضل 33 محطة تحلية (وضعت السعودية في المركز الأول عالميا بنسبة 22,20% من الناتج العالمي)!
.. غـير أن مشاريع الدولة لا تكفي وحدها لمواجهة الطلب المتزايد على المـياه.. الحفاظ على رفاهيتنا المائية يتطلب أيضاً مشاركة القطاع الخاص، وتنظيم عمل المنتجين للمياه، وتحمل المواطن نفسه جزء من المسؤولية.
ولأنني أؤمن بتوزيع الأدوار ومشاركة القطاع الخاص؛ لا أخفي سعادتي بظهور قرار مجلس الوزراء رقم 263 والقاضي بالموافقة على تنظيم هيئة المياه والكهرباء.. هذا القرار الذي لم يُسلط عليه الضوء كثيراً رغـم أنه يمنح القطاع الخاص فرصة التنافس والمشاركة في إنتاج المياه. وكان أيضا سبباً في ظهور (مُـنظم المـياه) الذي يـتولى مهمة منح تراخيص للشركات وتُنظم مراقبة أنشطة تقديم المياه..
وهذا يعني أن (مُـنظم المياه) هو الجهة المسؤولة عن تنظيم المياه في البلد، والجهة المعنية بإصدار الرخص للجهات الراغبة في تقديم خدمات المياه والصرف الصحي (باستثناء أنشطة الإنتاج المزدوج التي تتعلق بالإنتاج المتزامن للكهرباء المرافق للمياه المحلاة).. ومنذ ظهورها ــ قبل عامين تقريباً ــ أصدرت بالفعل تراخيص العمل لعدد غير قليل من الشركات المعنية بتقديم خدمات المياه (مثل شركة المياه الوطنية، والمؤسسة العامة لتحلية المياه، والشركة السعودية لشراكات المياه، شركة نقل وتقنيات المياه، وشركة مرافق... الخ).
والحقيقة هي أن مجرد وجود جهة تتولى مهمة التنظيم والترخيص يعـد نقله نوعية كبيرة (سبق وطالبت بها في مقال سابق).. يعني فتح باب القبول لإشراك نسبة أكبر من القطاع الخاص في إنتاج المياه والخدمات المرافقة لها أسوة بمعظم دول العالم.. يعني أن الحكومة لن تكون مسؤولة وحدها عن هذا النشاط، وأن دورها سـيتركز على منح التراخيص ومراقبة أداء الشركات بحسب المؤشرات الشروط التي نالوا بموجبها رخصة العمل. بــدل أن تتحمل الدولة العــبء الأكبر سيتولى منظم المياه مهمة التأكد من جودة الخدمة من خلال 92 مؤشر أداء عالي الكفاءة.
وما تجاوز توقعاتي فعلاً هـو أن التراخيص الممنوحة للشركات لم تقتصر فقط على نشاط نقل وتوزيع وبيع المياه ــ كما كنت اعتقد ــ بــل وشملت أيضا مجالات متقدمة تقنيا كـإنتاج المياه المحلاة، ومعالجة المياه المُـنقاة، والتخزين الاستراتيجي، وإعادة استعمال مـياه الصرف الصحي (التي تعـد بحد ذاتها ثروة مهدرة يمكنها تحويل مدنـنا الجرداء إلى غابات خضراء)...
... بقي أن أشير إلى أن مشكلتنا مع شـح المياه لا تتعـلق فـقـط بالجانب التقـني والتشريعـي..
فـالجانب الأول تم حله بإنشاء محطات التحلية (وابتكاراتنا المتواصلة في هذا الجانب) والجانب الثاني اكتمل بظهور مُـنظم المياه الذي يمنح تراخيص الخدمة والإنتاج للقطاع الخاص.. ما يتبقى فقط هـو الضلع الثالث والمتمثل في الوعـي الاجتماعي (وعدم الإسراف الفردي) في استهلاك المياه ذاتها.. فرغـم بيئتـنا الصحراوية الجافة مايزال المواطن السعودي يحتل المركز الثالث عالمياً من حيث استهلاك الفردي للماء (بأكثر من 260 لتر يوميا) .. مايزال يتعـامل مع المياه بحسب المقولة العربية القـديمة "الـماء أهـون موجـود" لأنــه لم يجـرب يـوماً الشطر الثاني من المقولة " ولكـنه أعّــز مفـقـود"..
أدعـوكم ــ ونفسي ــ لتجربة تخفيض استهلاكنا الفردي يـوماً بعد يـوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام.. لنكن أكثر وعـياً، وابتكاراً، وإيماناً بأن استهلاك (الأقـل) يعـني حصولنا على (الأكثر)...