يا جدي إنها اثنان وتسعون عاماً، تعد سنواتك كعيد يومِنا هذا، وفي كل عامٍ نهنئكما معاً، تزيد تجاعيدك يا جدي نماءً، تحكي لأجيالنا مجداً شاركتَ في بنائه، رفعتَ فيه الطوب والطين، ساويتَ مع أقرانك الحصير، وأخذتم من الصحراء رمال الممكن ورياح المستحيل، وأمضيتم بعزيمة وإرادة نحو مستقبل زاهر لبناء جيل.
صعوباتِ زمانكمْ زادتكمْ قوة، وظروف معيشتكم صنعت أمة، حتى بتنا نتغنى في حاضرنا أننا نحن السعودية العظمى.
يقرع الطبل لترددوا النشيد، وترتفع الساريةَ لتحيي دارها، وليصطفّ أهلها في زفافها، فلا حاضر يعلو على حلمِ جدي، ولا ماضي يستكان منه أو يخشى، بل إنها عقود صنعت من سعفِ الفخر وطين العزيمة وعمق الانتماء.
جدي بتجاعيدهِ التسعينيةِ يمسح على ترابٍ أشمّ فيه عبق التاريخ، يهمس لي بابتسامتهِ الحكيمةِ قائلاً: يا ولدي لنا في أرضِنا تربة ملساء، لا تشيخ ولا تشيب، ترى عودها يشتد مع كل عامٍ، وُحِّدت لتدوم بأمرِ ربها، حكمت وسادت في عالمها، جمعت من الخيرِ عمومه، ومن الأمل رجاءه، ودفعت شرور من لم يتوقع حضوره.
جدي الذي يعشقُ جبالَ قريتنا، ناداني ليتكئ عليَّ لنصعدَ إلى قمةِ رِجمه المعهود، فقدماهُ معتادتان على الصعودِ إلى القممِ مُنذ عامهِ الأول، وأخذ يشير بيديه إلى سالفِ الأعوام، وبدأ بحكاية عشقه لصرير السواني، وشوقه لشدو المحاحيل، وكيف كان نغم زمانهم مفعماً بأصلِ الحياةِ وأساسها.
وأكملَ جدي ذكرياتهِ عندما اجتمعت الأهالي لاستقبال جلالة الملك حينها، كان شعور ما بعد توحيد المملكة طاغياً. يذكر جدي وهو في عمرِ العاشرة كيف كان ذكرُ المملكة العربية السعودية اسماً رناناً ولا يزال، إنها مشاعر الانتماء التي بنت للأحفاد قلاعاً من قصصِ النجاح، وحصوناً من القيم التي رسّخت في جيلنا معنى الانتماء لوطن معطاء يستحق الحب.
ودّعتُ جدي، وقبلتي عاصمة السمو الرياض، كان الطريقُ طويلاً ممتلئاً بإحساس الفخر والتباهي بفساحةِ أرض وطني، وعند وصولي إلى الرياض وحين لاح لي وجهها، عانقتْ أحرف الزهو فؤادي، حتى انكسرت رقائق كأسي منتشيةً، قد راقها الطرب فتثنّت، وهنا فاح عطرُ رفوفها في غَيْهَبِ الغسقِ.
إنها ابنة القرون المتتابعة لم تَشِخْ في عيونِ قاطنيها ولا حتى زائريها، عمرها الذي تجاوزَ الميلاد كان كفيلًا بلمعانِ بريقها، فهي الضاربة في جذور التاريخ، وإن تواضعت للماء فغمرتها حتى اهتزت ورَبَتْ.
في سمائها غيمة ممطرة، لا تحركها العواصف ثابتة كثبات الأرض التي تمطرها، تتشكل بوجل وتترك للشمس مساحتها، تسحر أعين من ينظر لتلك الغيمة ونور شمسها ينبثق على هضبتها.
في قلب ساكنها حكايات لا تنتهي، يقلّب صفحات الماضي باعتزاز، فأرضهم مقصد الظمآن، وقبلة الجائع، وطالب الأمن والأمان، واسألوا التاريخَ عن أجدادنا، وسترى التاريخَ نفسه في حالةِ زهوٍ متعاظم يشرح لك المشاهد والصور.
ينتقل عمود أحدهم إيثاراً، فزرعها نفيس على نفسه، فبرهطه في باديته عقد من الزمن، فيعود من الشوق عودة المرتحل إلى المستقر، يسابقه الشوق فيصعد تلالها، ليطل بعينيه على سواحلها، فهي الدرياق لحواسه.
قافلة مجدهم موكب، يسكن تاجها نجد، وهي ابنة الرواية الكبرى، كبيرها يجاور كبيراً، ووقور يعطي التاج لوجيهٍ، هناك ارتسمت العظمة، فالقصور ليست مساكن، والأبواب ليست مداخل، إنه عنوان إمارة شيَّدها الملك عبدالعزيز ليحمل رايتها أحفاد يليهم أحفاد.
إنه شعور الفخر أن أكون سعوديَّ الهوى والهويةَ، يجعل من حروفه سيوفاً تؤدي العَرضة السعودية، وسط قرع الطبول وترديد البيوت، أردد معها في يوم وطننا الثاني والتسعين، أنتِ لنا دار.