في سـبتمبر الماضي زرت الدرعية لأول مرة في حياتي وشعرت بأنني أتجول حرفياً في زوايا التاريخ السعودي. فرغم معرفتي بماضي الدرعية وتاريخ الدولة السعودية الأولى، إلا أن الفرق شاسع بين المعرفة النظرية، وبين التجربة الحسية التي تقدمها هذه المدينة العريقة...
والدرعية ــ لمن لايـعـرفها ــ كانت العاصمة السياسية للدولة السعودية الأولى التي تأسست عام 1727م وضمت أجزاء كبيرة من العراق والشام وكامل الجزيرة العربية باستثناء الكويت وحضرموت. ولاحظ هنا أن تاريخ تأسيس هذه الدولة (على يد الإمام محمد بن سعود) يسبق تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية (عام 1776) وكـندا (عــام 1867) وألمانيا (عام 1871) وإيطاليا (1861) مما يضفي على الدرعية نفسها أسبقية تاريخية فريدة.
وخلال تجولك في حي الطريف بالدرعية، الذي ضمته اليونسكو إلى قائمة التراث العالمي، ستشعر أنـك تسير داخل متحف كبير ومفتوح. شعرت وأنا أدخله أنني انتقلت عبر الزمن إلى أيام الدولة السعودية الأولى. وفي وسط هذا الحي ستمر حتماً بـقصر سلوى (أو قصر الحكم) الذي يعكس تصميمه، مثل كافة المعالم البارزة في الدرعية، روح العمارة النجدية التقليدية ..
... وبالإضافة للمنطقة التاريخية، ستضم الدرعية مستقبلاً متاحف وفنادق ووحدات سكنية ووجهات سياحية حديثة. فالهدف النهائي ــ لهذه المشاريع ــ لايقتصر فقط على تحويل الدرعية إلى مقصد سياحي وتراثي عالمي، بـل وتحويل المنطقة بأكملها إلى أسلوب عـيش جديد يجمع بين الأصالة والتطور والبنية المستقبلية الممتازة. ويحـدث كل هذا رغـم أن معالم وأحياء الموقع ماتزال مستوحاه من تاريخ وثقافة الدولة السعودية الأولى.. حتى ترميم المعالم التاريخية الأصيلة مايزال يعـتمد على المهارات القديمة في البناء (كما رأيت في فيلم تعريفي عن الموقع) ويستخدم نفس المواد التي استخدمها سكان المدينة قبل 600عــام. وهــذا النوع من الالـتزام يضفي قدراً كبيراً من المصداقية على مشاريع التطوير الحالية في الدرعية، ويفسر هوية ومغزى شعارها الحـالي: "من هـالأرض" / "The City of Earth".
ورغم صعوبة دمــج الماضي مع المستقبل في أي موقع عالمي، إلا أن الدرعية قبلت هذا التحدي حيث يجري إنشاء ــ وهذا مجرد مثال ــ أول أوبرا ملكية على مسافة قريبة من قصر سلوى العريق.. كما سيتم إخـفاء الحركة المرورية والبنية التحتية داخل شبكة من الأنفاق الأرضية، كي لا تلغي متعة المشي في طرقات المدينة وتمنحها لقب أكبر مدينة مخصصة للمشاة في السعودية. والدرعية تسعى الى الاستدامة الثقافية والمحافظة على ثقافتها وتراثها العريق من خلال دمج الماضي بالحاضر وعكسه على المستقبل، فنجد المباني في الدرعية وتصاميم المشاريع الجديدة والمعلن عنها، لازالت تحافظ على هوية المنطقة وعلى التصميم العمراني النجدي. كما أن الأنشطة والفعاليات التي تقوم بها مستمده من ثقافة وتراث المنطقة - بما في ذلك طريقة ترحيب ولباس العاملين والموظفين فيها..
وكل هذه الجوانب تؤكد بأن مستقبل الدرعية ينطلق من تاريخها ويجمع بين التطور والاستفادة من التقنيات الحديثة مع الحفاظ على إرث وتاريخ وهوية المنطقة.
والحقيقة هي أن الاهـتمام بـالدرعية؛ اكتسب زخماً كبيراً في عهد الملك سـلمان بالذات.. ففي عام 2017 مثلاً تـم إنشاء هيئة تطوير الدرعية بـاشراف مباشر من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. وفي عام 2022 تأسست شركة الدرعية (التابعة لصندوق الاستثمارات) لتنفـيذ مشاريع البـنية التحتية والإسكانية والثقـافية بجهود جبارة وغير مسبوقة...
وبحسب تقديري الشخصي يصعب حـالياً على أي موقع عالمي منافسة الدرعية ؛ لا من حيث الميزانية، ولا من حيث الاهتمام الرسمي، ولا من حيث عـدد وضخامة المشاريع المنفـذة فيها..
وكل من يزور الدرعية اليوم، ويشاهد ضخامة وأصالة المشاريع القائمة فيها، يدرك أن الاهتمام الكبير بهـذا المعَـلم بالذات هـدفه تعزيز الهوية الوطنية في الداخل، وإبراز الدرعية كوجهة ثقافية وسياحية في الخارج..
فـإن كنت سائحاً، فزيارتك للسعودية لا تكتمل دون زيارة الدرعية؛ أول عاصمة للدولة السعودية...
وإن كنت مواطناً، فزيارتك للرياض لا تكتمل دون زيارة حي الطريف، ورؤية قصر سلوى، والتجول في طرقات المدينة العتيقة.
... لا تتأخر مثـلي ؛ فـقراءة التاريخ ليست مثـل المشي في طرقاته..