العَدميّة والتقدّم!

لطالما نال التقدّم حيّزا كبيرا من إعجاب البشر به، نعني بذلك تقدّم آلات الحياة المادّية بشكل عام، هذا الإعجاب وصل لمرحلة ضاقَت بها عين المُعجَب وأصبحت لا ترى إلا جماليات هذا التقدم وعَظَمَة صُنّاعه، بُلدانًا وأفرادا، إلا أن هذا التقدّم بمفاتنه الكثيرة، متبوع بضريبة عالية الثمن، ضريبة عُملتها الشهيرة هي "العَدَميّة"!

العدمية المتمثلّة في انحدار بل حتى إلى انعدام الجوانب الإنسانية والأخلاقية، والتي أظهرت بوضوح أنها تحضر بشكل متطارد مع التقدّم، ففي البلدان الثرية والمتقدّمة تتبيّن حدّة العدميّة، فكلّما زاد هذا التقدم في بلدٍ ما، اتسعت معه العدميّة اتساعا مخيفا!

لنأخذ جولة على تاريخ الإمبرياليات الغاشمة، سنلحُظ بأن جُل الدول التي سقطت ضحيّة لسياسات إمبريالية كالهند ولبنان ومصر ودول المشرق العربي وغيرها، كلها كانت تحت قبضة الدول "المتقدمة"، لتحلِب من مواردها وتنكل بشعوبها، فيتضح بأن التقدّم في تلك الدول الإمبريالية قد جّفف إنسانيتها، وأخّرها تماما!

وفيما لو ذهبنا لجولة أخرى، ووطأت أقدامنا على إحدى أراضي تلك الدول المتقدمة، سنجد بأن هناك تقوقعًا ذاتيًا شديدًا، وحياة آليّة بحتة، وتهافت صريح لكل ما هو تصرّف إنساني، ومعيشة رأسمالية لا تكترث بأي أمر غير مادّي!

وإن اتسع الوقت لجولة أخيرة، سوف نلمح الاتجاه المحلي والعالمي لتحجيم أو حتى إلغاء التخصصات الإنسانية في الجامعات والمعاهد، والاكتفاء بالتخصصات المادية العلمية، في انصياع جليّ لأقصى درجات البراغماتية!

رسم -علي عزت بيجوفيتش- خريطة التيارين المتضادّين في قضية الإنسانية مقابل المادّية، حيث يقف ديكارت، أفلاطون، الغزالي وهيجل في معسكر الفريق الأول المناصر للإنسانية والمعادي للمادية البحتة، بينما يقف في التيار المادّي المُضاد: ماركس،هرقليطس،هولباخ وطاليس حاملين راية المادية الغالِبة! وعلى الرغم من الغزارة النصية لهذين التيّارين ومن دخل تحت ظلّهما على مدار التاريخ، إلا إنهما لم يتقاطعا يومًا في طريقٍ واحد ولم يصِلا إلى كلمة سَواء تجمع ما بين النقيضين جَمعا مُثمرا!

يبدو أن معالِم الاستحالة للجمع ما بين النقيضين تلوح في الأفق، وأن فاتورة التقدّم لا يمكن تخفيضها أبدًا، وقد تُحسَم القضية بعبارة مختصرة مفادها:

الإنسانية لا تؤدي أبدًا إلى التقدم، والتقدّم لا يؤدي أبدًا إلى الإنسانية!

قد يعجبك أيضاً

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa