«الشرع»… من ركام الحرب إلى ملامح «سوريا الجديدة»!

تم النشر في

في الجغرافيا التي احترقت نصف قرنٍ بالحديد والنار، خرج رجلٌ من غبار التاريخ ليعيد رسم الوعي السوري من جديد.. إنه أحمد الشرع — الاسم الذي يتردّد في فضاء السياسة والإعلام — لم يأتِ على ظهر دبابةٍ ولا بمرسومٍ من الخارج؛ بل خرج من رحم الفوضى نفسها، مؤمنًا بأن للدم معنى، وللخراب قابليةً للتحوّل إلى عمرانٍ سياسيّ جديد.

وُلِد الشرع في أكتوبر 1982 بالرياض لأسرةٍ سوريةٍ منحدرةٍ من الجولان، واستعاد هذا الخيط الرمزي خلال حضوره «مبادرة مستقبل الاستثمار» في العاصمة السعودية، في لحظة تقاطُعٍ بين سيرةٍ شخصيةٍ ومسارٍ إقليمي يفتح أبواب المستقبل. لم يكن تلميذَ السياسة الكلاسيكية، بل ابنَ الشارع والمنفى والحدود؛ قاتل، ثم صالح، ثم أعاد تعريف المعركة.. معركة الإنسان ضد استلابه، والدولة ضد أنقاض ذاتها. وقد ظهر في الرياض بوصفه فاعلًا سياسيًا براغماتيًا يُحسن مخاطبة المستثمرين بقدر ما يُخاطب جمهور الحرب والسلام.

انهار نظام الأسد أواخر عام 2024، لكن الشرع لم يصعد بصفة «المنتصر» بقدر ما صعد بوعي إعادة تعريف المعنى، ومنذ تولّيه السلطة في يناير 2025 أعلن مسار «إعادة كتابة العقد الاجتماعي»: إلغاء دستور 2012، وحلّ الأجهزة التي أعادت إنتاج الخوف، ودمج الفصائل في جيشٍ وطنيٍّ موحّد، وإصدار إعلانٍ دستوريٍّ مؤقّت يقود لانتخاباتٍ خلال خمس سنوات — تحوّلٌ في فلسفة الحكم من شرعية القوّة إلى شرعية الوعي.

تحت قيادته بدأت دمشق تستعيد أنفاسها.. ماءٌ وضوءٌ في الأحياء، ومصانع صغيرة عادت إلى الحركة، ومشاريع إعمار خرجت من الورق إلى الأرض، وفي نسيج المجتمع، مُدَّت اليد إلى المكوّنات الكردية لتثبيت توازنٍ وطنيٍّ يرى في التنوع مصدرَ قوّة لا انقسام.. وعلى المنصة الاستثمارية بالرياض، صاغ الشرع علاقته بالمنطقة بصوتٍ مباشر: «السعودية مفتاحُ سوريا استثماريًّا… ورهاني على شعبي الذي انتصر». ثم مضى إلى تأطير الإعمار كاستراتيجيةٍ اقتصادية-سياسية لا كمشروع مقاولات: «كلُّ نكبةٍ في سوريا فرصةٌ استثمارية… وكلُّ حجرٍ هُدم سنعيد بناءه».

هاتان الجملتان ليستا شعاراتٍ، بل إشارةٌ إلى بنية قرارٍ تنفيذيّ: الشرع يؤكّد تدفّق استثماراتٍ خارجيةٍ ضخمة منذ سقوط النظام، ويضع الاستثمارَ بوصفه أداةَ توازنٍ واستمرار، لا مجرد أرقامٍ في دفاتر المحاسبة. وقد قُدِّرت التدفقات التي أعلنها في الرياض بـ«نحو 28 مليار دولار» كمدخلٍ أوليٍّ لإعادة تشغيل عجلة الاقتصاد.

خارج الحدود، جعل الشرع من الرياض محطته الأولى؛ ليس بروتوكولًا فحسب، بل رسالةَ تموضع: مستقبلُ دمشق يمرّ عبر مركزٍ عربيٍّ تقوده المملكة. لقاءاته الجانبية مع القيادة السعودية عكست هذا الإدراك: الاستثمار سياسةٌ بقدر ما هو اقتصاد، وتوازنٌ بقدر ما هو تمويل.

في الخطاب الداخلي، لم يقدّم نفسه كبطلٍ أسطوري؛ بل كإنسانٍ أنهكته الحروب وصقلته التجارب. يظهر بين الركام بابتسامةٍ ثابتة، يصافح الناجين ويكلّمهم بلغة المشاركة لا لغة الأوامر: «لا أطلب منكم التصفيق… أطلب الشراكة في الغد». بهذا النفس تحوّل الجمهور من متفرّجٍ إلى شريك، ومن ضحيةٍ إلى صانعٍ لمستقبله.

من دمشق إلى الرياض تُنسَج خيوطُ المرحلة التالية: كتلةٌ عربيةٌ مركزيةٌ تُزاوج الحكمةَ بالتحوّل، والنهضةَ بالاستقرار. في هذا الإطار ظهرت تعهّداتٌ استثماريةٌ كبيرة لدعم الاستقرار الاقتصادي وخلق الوظائف، بما يعكس رهانًا إقليميًا على مسار «سوريا الجديدة».

في المحصلة، تُعلّمنا سيرةُ أحمد الشرع أن التاريخ لا يُكتب بالمدافع ولا بالأيديولوجيا وحدهما، بل بالعقل الذي يجرؤ على الحلم بعد الخراب. «سوريا الجديدة» ما تزال تتشكّل، لكن ملامحها الأولى تقول إن الضوء — مهما خفت — أقوى من ذاكرة الحرب، ما دام هناك من يُحسن هندسة الأمل بلغةٍ يفهمها السوق كما يفهمها الناس.

قد يعجبك أيضاً

No stories found.
logo
صحيفة عاجل
ajel.sa