في مثل هذا الوقت من كل عام تصدر مجلة فوربس الأمريكية قائمة بأغنى المشاهير الراحلين (Forbes dead rich list). وبعكس قوائمها الأخرى، تهتم هذه القائمة فقط بالأموات الذين (مايزالون) يحققون عوائد ضخمة من الأعمال التي أنجزوها في حتى بعد مماتهم. ومن فرط متابعتي لهذه القائمة (التي تصدر بشكل سنوي منذ عام 2001) علقت برأسي مجموعة أسماء تتكرر في كل عام أبرزها مايكل جاكسون، وألفيس بريسلي، وجون لينون.. فـفي قائمة هذا العام مثلًا (2022) أتى الفيس بريسلي في المركز الرابع (بــ110 مليون دولار) ومايكل جاكسون في المركز السادس (بـ75 مليون دولار) وجون لينون في المركز الـثاني عشر (بــ16 مليون دولار) وجميعها نظير بـث أغانيهم عبر الراديو ومحطات الـبث..
أما الأكثر غرابة فهو احتلال المؤلف البريطاني جون توكين المركز الأول في هذا العام (رغم وفاته عام 1970) بعائدات تفوق الــ500 مليون دولار.. أما المركز الثاني فحققه لاعب السلة الأمريكي كوب راينت (الذي توفي قبل عامين في حادث طائرة) بعائدات تفوق الــ400 مليون دولار.. أما المركز الثالث فحققه المغني البريطاني ديفيد بوي (المتوفى عام 2016) بــ250 مليون دولار...
لتبيان قــوة وجــدية قوانين الملكية الفكرية في الدول المتقدمة (حتى بعد وفاة أصحابها)...
اخترت البـدء بالأموات لـتبيان دور الملكية الفكرية في حفظ حقوق (الورثة) بـعـد رحيل المبدع وصاحب الحـق.. القائمة السابقة تثبت أن "الأملاك الفكرية" تقدم للورثة عائدات أكبر من أي عقارات مادية (فقط) في حال تم تطبيقها بجدية حقيقية.
.. وحقوق الملكية الفكرية تشمل كافة الإبداعات التي يمكنك تصورها؛ من حقوق التأليف والأداء الفني والبث الإذاعي، إلى براءات الاختراع والنماذج الصناعية والعلامات التجارية.. تحفظ حقوق الأحياء والأموات والمؤسسات والشركات في دولة المنشأ وعلى مستوى العالم.. عــدم وجودها يُـثبط عزيمة المبدعين ورواد الأعمال، ويقـتل روح الابتكار والريادة والتفوق العلمي.. والتهاون في حمايتها يمنع الشركات والمستثمرين والكيانات العالمية من الاستثمار داخـل الدولة ذاتها...
وفي المقابل؛ يمكن لـقوانين الحماية الفكرية تقديم عائدات تفوق الثروات الطبيعية والصناعات التقليدية.. يمكنها نقل أي دولة إلى اقتصاد المعرفة وتحقيق ريادة علمية وتقـنية غير مسبوقة.. ليس أدل على ذلك من خروج أمريكا التدريجي من اقتصاد التصنيع (الذي تركته للنمور الآسيوية) ودخولها في اقتصاد المعرفة الذي يعتمد كثيرا على حقوق الملكية الفكرية. وكي تفهم الفرق بين الاثنين انظر إلى هاتفك المحمول الذي يصنع في الصين بــ 120 دولار، ولكن شركة آبــل تبيعه عليك بـأكثر من 1000 دولار لأنها فقط تملك حقوق الابتكار والتصنيع والبرمجة.. وحين تنظر إلى أمريكا ككل تلاحظ أن أغـنى الشركات فيها هي التي تتاجر بالمعرفة وحقوق الملكية الفكرية (مثل جوجل وميكروسوفت والفيسبوك) وليس الشركات التي تقـدم منتجات مادية وصناعات تقليدية حقيقية (كـشركة فــورد وبويــنج وجنرال الكتريك)..
وهذه الأيام أصبح بإمكان أي دولة تجاوز اقتصاد التصنيع (بالقفز مباشرة نحو عصر المعرفة) ولكنها ستفشل حتما بدخول كلا المرحلتين دون وجود منظمة قوية للملكية الفكرية.. في هذه الأيام بالذات (حيث تتسارع وتيره التقدم التقني) أصبحت الملكية الفكرية من العوامل الضرورية لتحقيق التنمية الشاملة ودفع عجلة التقدم في أي دولة.. أصبح مؤكدًا (حتى للدول التي كانت تشجع عمليات التزوير داخلها) أن انتهاكات الملكية الفكرية تكبح النمو الاقتصادي وتعيق التقدم الصناعي وتحرم المجتمع من استقطاب الاستثمارات الخارجية الضخمة.
ولأن العالم تحول إلى قرية صغيرة، ولأن المنتجات الفكرية (من كتب وموسيقى وأفلام واختراعات وماركات تجارية) أصبحت سهلة التزوير في أي دولة؛ ظهرت الحاجة لوجود منظمة عالمية تنظم جهود الحماية الفكرية بين مختلف الدول.. ولتنسيق الجهود العالمية بهذا الخصوص ظهرت في جنيف المنظمة العالمية للملكية الفكرية (التي تدعى اختصارا (WIPOوتضم 177 دولة من بـينها السعودية...
... والسعودية ــ بالمناسبة ــ من الدول الجادة في هذا المجال، وقطعت أشواطا متقدمة في حماية حقوق الأفراد والشركات.. فإن اهتمام المملكة بالملكية الفكرية يعود لعام 1939هـ عند اعتماد أول نظام سعودي للملكية الفكرية تحت مسمى العلامات الفارقة، في حين يعـد مجتمعها الأكثر وعيا واحترام الجهود المبدعين فـيها.. لا أقول هذا من باب المجاملة، بــل من خلال تجاربي الشخصية كمؤلف لثلاثة عشر كتابا.. فـفي حين لم أشاهد أي كتاب مزور داخل السعودية، شاهدت في دول عربية كثيرة كتبي المزورة تباع بشكل علني على أرصفة الشوارع.. وحين سألت الناشر عن تقديره لحجم الكتب المزورة في العالم العربي، قال بالنص: "أحسب عدد الكتب الأصلية في السعودية، ثم أضرب العدد في عشرة لتعرف عدد الكتب المزورة خارجها".. ولكن؛ رغـم هذه النسبة المثبطة، مازلت قادرا على العمل والاستمرار بفضل قوانين الحماية الفكرية داخل السعودية ــ أكبر سوق استهلاكي في عالمنا العربي..
... أتمنى فعـلًا أن تصل كافـة الدول العــربية لمستوى يتيح للمواطن توريث حقوقه الفكرية (ونقرأ ذات يوم عن قائمة شبيهة بقائمة فوربس).. أتمنى أن تـكتسب سمعة دولـية (ليس فقط بقدرتها على حماية حقوق مواطنيها) بــل وحماية الشركات والكيانات والدول التي ترغب في الاستثمار فيها..
لا أبالغ حين أقول إن الجــدية في حماية الحقوق الفكرية، يكفل لأي دولة استقطاب استثمارات عالمية تنافس ثرواتها الطبيعية...